الجدل الفارغ
لقد منت الإدارة الأمريكية على شعوب عديدة بنعمة الانتخابات، على أجزاء يوغوسلافيا السابقة، وعلى بلدان الاشتراكية العلمية السابقة في أوربا، ومن الجملة على العراق، وقد تمن بها بعد استكمال إبادة الشعب الأفغاني على أفغانستان.
بفضل الإدارة الأمريكية أصبحت الانتخابات في كل مكان حرة لدرجة مذهلة، حرة عبر التفعيل الطائفي والعرقي، وعبر الاحتلال، وعبر دفع الأموال، والهيمنة القمعية والقبضاوية، الخ.
بفضل الإدارة الأمريكية لم تعد الانتخابات محلية، أو وطنية، وإنما أصبحت دولية، فتتدخل الإدارة الأمريكية وحلفاؤها الأشاوس في انتخابات إيران، وفي حقوق التيبت في الانفصال عن الصين، وفي حقوق البورميين بالتمثيل الديمقراطي.
بنعمة الإدارة الأمريكية قد ينفصل جنوب السودان عن شماله، كما قد تنفصل دارفور وغيرها.
الإدارة الأمريكية تعيد رسم خريطة العالم، وهي بصدد إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
وفي أثناء ذلك تقوم ضجة متنوعة في كل مكان، اليد الأمريكية لها دور فيها.
هل يجب أن يكون السلاح في لبنان في يد غير يد الدولة؟ طبعاً في الحالة العادية لا؛ ولكن بقي السلاح منذ نشوء لبنان في يد الدولة وفي يد غير الدولة. كل مختار له زلمه، وله مسلحوه، وله منطقة نفوذه. السلاح، الذي يراد الآن منعه، هو الذي دافع به لبنان عن نفسه. أين كانت الدولة عندما كان يستباح جنوب لبنان؟ عندما كانت تهبط الهيلوكبتر الإسرائيلية في أرضه، وتغتال من تغتاله، وتمضي بسلام؟ أين كانت الدولة عند احتلال 1982؟ عندما ارتكبت إسرائيل جريمة مخيمي صبرا وشاتيلا؟ أين كانت الدولة، عندما تمركزت في الشريط الحدودي؟ طبعاً يجب احترام الدولة في كل الحالات، فهي تعبير عن الشعب اللبناني، ولكن يجب في الوقت نفسه احترام مسألة الدفاع عن لبنان. احتلال لبنان ليس مزحة، وإذا كانت «قوة لبنان في ضعفه»، فإن ضعفه لا يحميه من الاحتلال. وبشكل أوضح، الإدارة الأمريكية لا تحميه من الاحتلال، وإسرائيل عينها منذ أيام بن غوريون على جنوب لبنان لضمه إليها، وقد تضم لبنان كله في مرحلة تالية، إذا ما نجحت مخططاتها.
هل سيشكل الوزارة العراقية السيد نوري المالكي، أم السيد إياد علاوي؟ ولكن هل هناك فرق؟ هل يمثل أي منهما سيادة العراق ويقف ضد الاحتلال الأمريكي؟ هل يمثل أي منهما سيادة العراق، فيحول دون تجزئته، ويحافظ على ثروته ويشفي جراح شعبه، ويلم شعبه المشرد؟
هل سيكون رئيس العراق كردياً، أم عربياً؟ هل هناك فرق؟ ألا يحق للكردي العراقي أن يكون رئيساً، مثله مثل العربي العراقي؟ هناك فرق، إذا كان الأمر يدخل في محاصصة مرتبطة بتجزئة العراق. فالسؤال يصبح، هل يجب السير في اتجاه ترسيخ تجزئة العراق، أم لا؟
في العراق وفي غيره، يدور الجدل حول التزوير، وحول المخالفات الدستورية والقانونية. ولكن هل يمكن منع التزوير، في ظل الهيمنة القبلية والطائفية، وفي ظل المحتل وتأثيره المباشر وغير المباشر، وفي ظل دخول الأموال الضخمة التي تبني شركات، وترفع هامشيين مساكين إلى مرتبة الغنى الفاحش؟ وهل التزوير يحدث في صناديق الاقتراع، أم أيضاً في الهيئات التي تضع جداول الانتخابات وتوزع البطاقات الانتخابية، وفي تحديد الوحدات الإدارية، التي على أساسها تجري الانتخابات، وفي قوانين الانتخاب، التي تحدد منح أحقية الترشيح والانتخاب لفئات الناس، أو تمنع الترشيح للرئاسة، إلا لمن يجمع كذا توقيعاً، الخ؟ التزوير والحالة هذه، لا يمكن منعه. ربما تستطيع الأحزاب السياسية في دولة ذات سيادة، أن تتفق على مختلف الأمور المتعلقة بالموضوع، ونقول ذات سيادة، أي ليست مخترقة من قبل قوى خارجية عبر اقتصاداتها، أو عبر نفس الأحزاب.
الدستور؟ أي دستور؟ أين هو الدستور الصادر عن جمعية تأسيسية؟ أغلب الدساتير في العالم الثالث، إن وجدت، هي أشبه بالمرسوم التشريعي الصادر عن سلطة فاشية، وهي منحة غالباً من السلطة التنفيذية، وتستطيع أن تلحسه متى شاءت، وأن تفسره كيف شاءت.
والقانون، من يضع القانون؟ نظرياً يجب أن تضعه السلطة التشريعية، التي من المفروض أن تمثل الشعب. وعملياً تضعه السلطة التنفيذية، إما بشكل صريح (على شكل مراسيم تشريعية، decret-loi)، أو التوافق مع أغلبيتها البرلمانية، التي توافق على كل ما تريده السلطة رغم اعتراض الآخرين، ولا يمنع أن تكون السلطة التنفيذية سلطة احتلال(؟).
البناء السليم للنظام الدولي، وللأنظمة الوطنية، هو مسألة تاريخية يصل إليها المرء بالتطور، إذا ما استطاع أن يتطور سلمياً في ظل العلم والتكنولوجيا.
الطائفية تتناقض والعلم في كونها تحاول بناء مجتمعات تقليدية تعود إلى أيام العبودية، بذريعة أن الله يريد ذلك، مع أنه لا يمكن أن يكون هدر ثروات البلاد للاستعمار، وقتل المرأة، أو حرمانها من التعليم ومن الخروج من البيت ومن مختلف الحقوق، ومن الجملة حق العمل، وقتل من هم من دين آخر، الخ، من إرادة الله. هذا تفكير مرضي، ومع ذلك، فإنه منتشر بنعمة الاستعمار القديم، وبنعمة الإدارة الأمريكية.
وهو تفكير مرضي مثله مثل تفكير الإدارة الأمريكية بالسيطرة الأبدية والنهائية على العالم، ومثل تفكير الصهيونية الدولية، بأنها تمثل شعب الله المختار، الذي سيسيطر على العالم. هل تظن الصهيونية أنها وحدها في ذلك؟ إذا دخل المرء إلى أعماق أي طائفية دينية يجد أنها ترث الاعتقاد بكونها المختارة من الله، وبأن مسياها MESSIA أو مهدها، المنتظر سوف يأتي ويغزو لها العالم.
والبناء اللاطائفي المتطور للمجتمع هو غير ممكن في ظل الاستعمار، الذي تقوده اليوم الإدارة الأمريكية.
الاستعمار، وليس الإدارة الأمريكية كأشخاص هو العلة الأساسية، ويؤلف كابوساً على شعوب العالم، ومن الجملة شعب الولايات المتحدة، وشعوب بلدان الاستعمار القديم.
وإن محاربة الاستعمار هو مفتاح خروج العالم من كل أزماته.
(المادة كاملة على الموقع)