ألان هـارت ترجمة: موفق إسماعيل ألان هـارت ترجمة: موفق إسماعيل

التخريفة التي أضحت كابوساً

يعتقد معظم يهود العالم (وربما الكثير غيرهم) أن الصهيونية تجسد فكرة عودة اليهود إلى أرض وعدهم بها الرب (..) لكن لا توجد أية رابطة بيولوجية بين اليهود القدامى، واليهود اللاحقين الذين لبّوا نداء الصهيونية، المتحولين إلى الديانة اليهودية بعد زمن طويل من ظهورها، وحياتها القصيرة في ظل «كنعان»، الاسم الوارد ذكره في الإنجيل والذي عُرفت به فلسطين قديماً. لذلك لا يحق لهم شرعياً الادعاء بملكية أرض فلسطين.

وحينما أصدرت الصهيونية أول بياناتها المضللة في عام 1897، لم يكن موجوداً من سلالة اليهود القدامى أكثر من عشرة آلاف يهودي، جميعهم يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، وكانوا آنذاك معادين كلياً للمشروع الصهيوني الاستعماري، لأنه سيجعلهم معادين للعرب الفلسطينيين، بمقدار ما اليهود الوافدون معادون لهم.

ومن المعروف أن معظم يهود العالم، قبل المجازر النازية، لم يكونوا مهتمين بالمشروع الاستعماري الصهيوني، فيما الكثير منهم كان معادياً له، وقد عبّرت غالبية الشخصيات الأكثر معرفة من بينهم عن لا أخلاقية الصهيونية، وعن الخشية من أن يُدخلها المشروع الصهيوني الاستعماري في صراع لا نهاية له. كما عبّر العديد منهم، في حينه، عن الخوف من أن تحرض الصهيونية على معاداة السامية، إذا ما سمحت لها الدول الكبرى بشق طريقها، وهو ما يحدث اليوم. وفي الواقع أضحت معاداة السامية الوسيلة التي أتاحت للصهيونية إقامة دولتها. الدولة الصهيونية (وليس الدولة اليهودية).

هكذا أنشئت إسرائيل من خلال الإرهاب الصهيوني والتطهير العرقي، وفقاً لعملية مخططة مسبقاً، ورؤية تنكر حقوق (أكثر من) ثلاثة أرباع السكان الأصليين، عرب فلسطين، وتجردهم من ملكية بيوتهم وأراضيهم. بينما تؤكد الصهيونية أن إسرائيل وُجِدت، وبالتالي اكتسبت شرعيتها، من خلال قرار تقسيم صادر عن الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني، 1947. لكن هذا الكلام مجرد هراء حملات دعائية، ولا صعوبة في استقصاء الحقائق التالية:

• بداية، لا يحق للأمم المتحدة اتخاذ قرار تقسيم فلسطين  دون موافقة غالبية سكانها، ولا يحق لها منح أي جزء من أراضي فلسطين لأقلية من المهاجرين الأجانب كي يؤسسوا دولة لهم.

• بفارق ضئيل وبعد تصويت مرتَّب، وافقت الجمعية العامة  لهيئة الأمم على قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية وأخرى يهودية، وعلى توصية بخصوص القدس بين الدولتين، بمعنى أن التوصية لا قيمة لها ولا تصبح قراراً إلا إذا وافق عليها مجلس الأمن.

• لم تجد توصية الهيئة العامة معبراً إلى مجلس الأمن لأن الولايات المتحدة كانت تدرك أنها إذا وافقت عليها فلا يمكن فرض تنفيذها إلا باللجوء إلى القوة، نظراً لشدة اعتراض العرب والمسلمين على قرار التقسيم؛ وفي حينه لم يكن الرئيس ترومان جاهزاً لاستخدام القوة من أجل تنفيذ التقسيم.

• هكذا تعطلت خطة التقسيم (ولم تعد تنفع)، وأعيد طرح السؤال للنقاش في الاجتماع العام لهيئة الأمم «ماذا نفعل بشأن فلسطين؟» بعد أن عبثت بريطانيا بمقدراتها وأدارت لها الظهر مستسلمة طواعية للإرهاب الصهيوني. فوافقت الولايات المتحدة على الاقتراح الأنسب لها القاضي بوضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة مؤقتاً. وفي الوقت ذاته كان الاجتماع منكباً على نقاش إعلان إسرائيل قيام دولتها من جانب واحد، في تحدّ سافر لإرادة المجتمع الدولي الموحد، بما فيه إدارة ترومان ذاتها.

حقائق التاريخ تفيد إذاً بأن إسرائيل لم يكن لها حق بالوجود. بدقة، لم يكن لها حق بالوجود ما لم يعترف بها ويشرّع وجودها أولئك الناس الذين شردتهم الصهيونية وجردتهم من أراضيهم وكامل حقوقهم. فوفقاً للقوانين الدولية، الشعب الفلسطيني وحده هو المخوَّل بمنح إسرائيل الشرعية التي كانت تسعى للحصول عليها كي تقوم.

من هو صهيوني الحاضر؟

باختصار: كل من يؤيد «الصح والخطأ» في الرؤية الصهيونية لدولة إسرائيل، وليس بالضرورة أن يكون يهودياً (اقتباساً من بلفور)، وكل من ينكر ويرفض مقولة أن الصهيونية ارتكبت خطأ رهيباً ضد الفلسطينيين. ذاك الخطأ الذي يجب الاعتراف بوقوعه، وتصحيح نتائجه بطريقة تلائم الشعب الفلسطيني، إذا أردنا إحلال السلام وإيقاف التدهور السائر باتجاه نكبة شاملة. «النكبة» هي الكلمة العربية التي تصف تجريد الفلسطينيين من أراضيهم وتهجيرهم. وبالنسبة لي، إنكار الصهيونية للنكبة لا يقلّ شراً وفحشاً عن إنكار مجازر النازية.

لا أحد يمكنه التقليل من فعالية وتأثير ماكينات البروباغاندا الصهيونية. فغالباً ما تعلم دكاترة الصهيونية من النازيين أنه كلما كبر حجم الكذبة، واستمر ترديدها، كلما صار تصديقها ممكناً في أوساط يهود ومسيحيي العالم الغربي؛ وكذلك يسهل تصديقها كلما زاد رعب الإعلام السائد من انزعاج الصهيونية أو إزعاجها كثيراً أو قليلاً.

وإضافة إلى الكذبة الدعائية الدائمة بأن إسرائيل لم تجد مقابلها شريكاً عربياً لإحلال السلام، أكبر أكاذيب الدعاية الصهيونية على الإطلاق زعمها الدائم أن إسرائيل تعيش في ظل التهديد الدائم بإزالتها، و«رمي يهودها في البحر»، كما ذكرت في كتابي «الصهيونية: عدو اليهود الحقيقي» أن وجود إسرائيل لم يكن يوماً مهدداً من قِبل أي تجمع للقوى العربية، لا في عام 1948، ولا في عام 1967، ولا حتى في عام 1973. ولم يكن هذا الزعم سوى غطاءً يسمح لإسرائيل بالإفلات حيث يهمها، في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، وبإظهار عدوانها على أنه دفاع عن النفس، باعتبارها الضحية بينما هي الطاغية في الواقع.

سمتان للصهيونية

السمة الأولى: فوقية اعتداد بالذات لا مثيل لها. السمة التي وصفها في عام 1986، المدير السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية «يهوشافات هاركابي» بأنها «أكبر خطر ماثل» يهدد الدولة اليهودية. أما السمة الثانية: فهي فظاعة ووحشية عجرفة القوتين العسكرية والاقتصادية، وما تستطيع الأخيرة شراءه من نفوذ في الكونغرس الأمريكي، حيث كل ما يتم تمريره للديموقراطية معروض للبيع في المزاد للقادر على الدفع أكثر.

إنما في حقيقة ما يتعلق بصناعة وإدامة الصراع في وعلى فلسطين التي أحيلت إلى إسرائيل، آمل أن يكون الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788 - 1860) محقاً في مقولته: «تمر الحقيقة بثلاث مراحل. أولاً، تتعرض للسخرية. ثانياً، تتم مقاومتها بشدة. ثالثاً، تصبح مقبولة باعتبارها بديهية». إذا صحت هذه المقولة، فهزيمة الصهيونية ليست ممكنة وحسب، بل آتية لا محالة.

مراسل سابق لـ «ITN وBBC»