إبراهيم البدراوي – القاهرة إبراهيم البدراوي – القاهرة

شايلوك.. يأتينا من جديد (4)

لتوطيد دعم الجماعات اليهودية التي انقضت على فلسطين لإقامة الكيان الصهيوني عملت البنوك اليهودية في البلدان الأوربية على افتتاح فروع لها في مصر لتسهيل تحويل أموال الجماعات اليهودية بمصر إلى فلسطين. كل من فرع البنك الأنجلو فلسطيني الذي أسس عام 1902 بإشراف الترست اليهودي الاستعماري– شركة فلسطين المحدودة التي تأسست عام 1922– شركة الرهونات العامة لفلسطين التي تأسست منتصف الثلاثينات– بنك الخصم الفلسطيني المحدود الذي تأسس عام 1935، كانت كلها تعمل في مصر مباشرة أو من خلال وكالة بنوك أجنبية يتمتع رأس المال اليهودي بنفوذ واسع فيها مثل «بنك أوف أثينا– البنك الأهلي– البنك البلجيكي والدولي– البنك التجاري للشرق الأدنى– بنك زليخا». وتدعمت نشاطات تلك البنوك (وكانت المراكز الرئيسية لمعظمها في تل أبيب) عقب الأزمة الاقتصادية العالمية وحتى الحرب العالمية الثانية. وشجعت رأس المال اليهودي على الهجرة من مصر إلى فلسطين.

التوجه إلى التركيز على التمويل التجاري وقطاع التأمين:

كان التوظيف التجاري هو أساس حركة رأس المال اليهودي بداية من عشرينيات القرن العشرين حتى منتصفه. وإذ سبق وجرى التوسع في قطاع التأمين، مثلما تم تطوير الاستثمار في بناء هياكل أساسية للنقل مرتبطة بتجارة وتصدير القطن التي سيطر عليها اليهود وصولاً إلى تجارة الواردات السلعية، فإنهم ولجوا أيضا الباب الواسع لشركات الملاحة البحرية، وتم الربط بين خطوط السكك الحديدية وحركة الهجرة إلى فلسطين. وهكذا كان التحول من تصدير القطن إلى الاستيراد السلعي والوكالة التجارية للشركات الأجنبية وتصدير الحاصلات الزراعية. وتوضح الإحصاءات المتوافرة كيف تمدد النشاط اليهودي. اذ من بين 30 شركة في مجال النشاط التجاري كانت عضوية مجلس الادارة للرأسماليين اليهود تصل إلى 100% في 9 منها، وما بين 50% و80% في 10 منها، وما بين 40% و50% في 8 منها. بينما المتبقي وهو 3 شركات فكانت النسبة 33% و30% و20% على التوالي. 

اقتحام الصناعة:

بداية وقفت الرأسمالية اليهودية موقفاً سلبياً من اتحاد الصناعات المصري منذ تأسيسه، إذ كانت المشاركة اليهودية فيه هامشية للغاية، وانحصرت في صغار الرأسماليين اليهود. لكن الكبار فضلوا السيطرة على قطاعات ليست بحاجة لحماية اتحاد الصناعات. بل عملوا على منع أي جماعات يهودية من المشاركة في اتحادات الغرف النوعية للصناعات التي يمكن أن تشكل منافسة للصناعات الصهيونية في فلسطين. كما أوضحت الأرقام أن العمالة اليهودية كانت محافظة ازاء المشاركة تقنياً في الصناعة المصرية. إذ كانت الأفضلية لديهم توجه للعمل في التجارة حيث يجري تدوير سريع لرأس المال ومن ثم تحقيق أعلى ربح ممكن. وهو ما أدى إلى وجود شبكة يهودية واسعة لتجارة التجزئة ونصف الجملة والجملة تعمل في تناغم وتكامل مع خطوط الانتاج للصناعات اليهودية الاستهلاكية أساساً. كما لم تكن الصناعات التحويلية التي اقتحمها الرأسماليون اليهود إلى مهارات تقنية عالية، ولذا فقد تم توظيف العمالة المصرية الوافدة من الريف بأجور زهيدة للغاية مستفيدين من القوانين العمالية الجائرة المفروضة، ومن نظام الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة. 

توجهات الصناعة اليهودية :

توجهت الصناعة اليهودية إلى فروع عدة:

• الصناعات التجهيزية للأقطان بداية من صناعات حلج وكبس الأقطان، إلى إعداد الأقطان للتسويق والاتجار فيها، إلى صناعة الزيوت من بذرة القطن، إلى صناعة الأسمدة اللازمة لزراعات القطن، إلى صناعات التفصيل والحياكة ثم الغزل والنسيج.

• الصناعات الغذائية المرتبطة مع اقتصاديات المواد الأولية مثل قصب السكر، وصناعة المعكرونة ...الخ. والملح والصودا، وصناعة الصابون.

• لكن النقلة الأخطر هى الانتقال إلى مجال التعدين واستخراج البترول الذي شهد تركيزاً واضحاً (كما شهد أيضاً التشابك مع رأس المال الأمريكي اليهودي أساساً). واستثمار مناجم الذهب والنحاس، إلى جانب صناعات الفابريكة الصغيرة لإعداد وتصنيع المواسير والأدوات الصحية ومواد البناء.

• وشهد التوجه إلى الصناعات الهندسية تركيزاً واضحاً بدءاً من الارتباط بمستلزمات هندسة الري لخدمة محصول القطن وخدمة الأراضي المملوكة لليهود، وما تبع ذلك من استيراد آلات الري  وهندسة الكهرباء والميكانيكا، وهندسة الإنشاءات والمقاولات ومياه الشرب والبناء العقاري. 

ونورد بعض الإحصاءات التي تبين مدى الاقتحام وسيطرة الرأسمالية اليهودية، بتبيان نسبة وجودهم في مجالس إدارات الشركات:

في 29 من شركات الصناعات القطنية (حلج وكبس وتخزين وغزل ونسيج وتريكو وملابس وأثاث وزيوت) في عام 1938- 1939: إذ كانت النسبة 100% في 3 شركات– 86% في شركة واحدة– 85% في شركة واحدة– 80% في شركتين- 60% في 3 شركات– 50% في 7 شركات– 45% في 3 شركات– 40% في شركة واحدة – 33 % في 5 شركات – 30 % في شركة واحدة – 20 % في شركتين . حيث يتبين أن العضوية اليهودية وصلت نسبتها ما بين 50% و100% في 17 شركة (أي ثلثي الشركات تقريباً) بينما كانت 12 شركة تتراوح نسبة التمثيل بين 20% إلى 50% .

وكانت نسبة الوجود في مجالس إدارات الصناعات غير القطنية بالكثافة نفسها تقريباً.

أرقام أخرى تزيد الأمر وضوحاً إذ أن رؤوس أموال جملة شركات الحلج والكبس والتكرير وصناعات البناء والانشاءات والمواد الغذائية، وكلها تمثل جانباً من ميدان هيمنة رأس المال اليهودي كانت تبلغ 4335226 جنيه مصري، في حين تبلغ رؤوس أموال الشركات الصناعية الأخرى 6615907 جنيه مصري.

أما في عام 1949 بعد نكبة اغتصاب فلسطين، فقد كانت أهم العضويات اليهودية في بعض الشركات العاملة في حقل الصناعات غير القطنية، والتي تشمل تجارة آلات، وصناعات الكترونية وكهربائية وميكانيكا، وبلاستيك، ومقاولات وصناعة مواسير، وصناعات استخراجية، وإنتاج سينمائي (جوزي فيلم أي أفلام اليهود)، والبترول ،والتعدين، والصناعات الكيماوية، ومضارب الأرز والمطاحن، وصناعات التبريد والمياه الغازية، والسكر التي تصل إلى 26 شركة، فقد وصلت نسبتهم في مجالس الادارة إلى 100% في شركة واحدة– 80% في شركتين– 75% في شركة واحدة– 70% في شركة واحدة- 66% في شركة واحدة– 65% في شركة واحدة– 60% في شركتين– 50% في 4 شركات– 45% في شركة واحدة– 40% في شركة واحدة– 33% في 6 شركات– 30% في شركتين– 20% في شركتين– 15% في شركة واحدة. أي أن نصف هذه الشركات كان ما بين 50% إلى 100% من أعضاء مجالس إداراتها رأسماليون يهود. 

رأينا كيف كانت هجمة رأس المال اليهودي على مصر، وكيف صار حتى تمام اغتصاب فلسطين وكيف حدد وجهات نشاطه في المراحل المختلفة على مدى قرن كامل. في ارتباط وتشابك مع عوامل ثلاثة: الهيمنة على الاقتصاد المصري عبر أعلى معدلات النهب الوحشي-  الحفاظ على العلاقة العضوية مع رأس المال اليهودي في أوربا بادراك كامل لاتجاهات الصعود والهبوط للقوى الامبريالية الحاضنة له– تحقيق الهدف الأساسي وهو اغتصاب فلسطين. وللموضوع تتمة.