نهج التضليل..
في أوقات الأحداث الكبرى، اعتاد جمال مبارك على الاختفاء وعدم الظهور إعلامياً. ذلك حدث مثلاً أثناء الحرب ضد العراق واحتلاله، كذلك أيام العدوان الصهيوني على لبنان، وطالت غيبته مع صمود حزب الله وانتصاره الذي أسقط نظرية الأمن المطلق الصهيونية. ثم أثناء العدوان الصهيوني على غزة وصمودها وهزيمة وإحباط أهداف العدو.
فيما عدا ذلك، وخاصة منذ عام 2005 حين تولى جمال مبارك رئاسة لجنة السياسات بالحزب الحاكم، والتي أنشئت خصيصاً له، ثم إضافة موقع الأمين العام المساعد للحزب بجانب اللجنة، حرص دائماً على الظهور المكثف، محاطاً بهالة دعاية ضخمة توفرها له الآلة الإعلامية للنظام. هكذا تم إرساء ظاهرة جمال مبارك كوريث لحكم مصر.
في الشهور الماضية تراجع ظهور جمال مبارك في المشهد السياسي بفعل بروز ظاهرة البرادعي الذي أحيط بهالة دعائية واسعة بالاستفادة من الرفض الشعبي لسياسات السلطة ولمبدأ توريثها لجمال.
كانت عودة جمال مبارك والتوريث له الى المشهد السياسي لأسباب عدة أهمها:
انحسار ظاهرة البرادعي خصوصاً بعد زيارة وفد جمعيته إلى الولايات المتحدة والتطورات التي شهدتها الجمعية وأدت إلى اضمحلالها
الحالة الصحية للرئيس، واقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي
تصاعد حدة الرفض الشعبي للسلطة بسبب السياسات المعادية لمصالح عشرات الملايين
بداية تراكم مصداقية قوى التغيير الجذري
تبلور التيار الاصلاحي اليساري بما يشيعه من تزييف للوعي الجماهيري
انعدام تأثير تحركات جمال مبارك في محافظات مصر حيث لم تسفر عن حلول للمشاكل المتراكمة رغم وعوده بحلول سريعة
تحركات السفيرة الأمريكية الواسعة ولقاءاتها مع الأحزاب وآخرها زيارتها للبرادعي
هذه العوامل رغم تناقضها دفعت باتجاه عودة جمال مبارك إلى المشهد السياسي.
علامات استفهام:
جاء الحضور المفاجئ لجمال مبارك في المشهد السياسي كمرشح للرئاسة بشكل نوعي جديد، إذ ملأت صوره الكثير من الشوارع. لكن الجديد هو تشكيل ما يسمى «الائتلاف الشعبي لدعم جمال مبارك» بواسطة أحد كوادر حزب التجمع الوطني، وأعلن المذكور لاحقاً أنه قام بتجميد عضويته بالحزب. وهى عملية تستهدف اعطاء التوريث طابعاً شعبياً زائفاً وغير متحقق بالفعل.
يتشكل هذا الائتلاف من عناصر حزبية وقوى أخرى وبمشاركة من العديد مما يسمى مؤسسات المجتمع المدني. ويصرح عضو حزب التجمع القائم على هذا العمل أن «هناك أجندة خاصة للمشاركة في وضع تصور عام للبرنامج الانتخابي لجمال من منظور شعبي تضع حلولاً جذرية لكل الملفات والقضايا الشائكة مثل أزمة البطالة والاسكان والاحتقان الطائفي».
علامة الاستفهام الأولى: جمال مبارك رئيس لجنة السياسات التي تضع خطوط السياسات للحكومة، كما تراجع كل مشاريع القوانين التي تعدها الحكومة قبل تقديمها للبرلمان، أي أن جمال مبارك ولجنته ضالعان في التردي الشامل والعميق الذي أصاب الوطن، وأصاب حياة عشرات الملايين في السنوات الخمس حالكة السواد منذ أن تبوأ هذا الموقع. فهل يتصور عاقل أو حتى مجنون إمكانية أن يستدير جمال مبارك، وأن يهجر انتماءه السياسي والفكري والطبقي، ويتبنى برنامجاً سياسياً لصالح الجماهير؟ وهل تتبدل المواقف وتنقلب رأساً على عقب بمثل هذه البساطة والسرعة؟ وهو ما ينطبق أيضاً على البرادعي.
علامة الاستفهام الثانية: هل تشكل هذا الائتلاف بعيداً عن علم ومباركة قيادات حزب التجمع؟ وهل هي مجرد مصادفة أن هذا الائتلاف قد تم الإعلان عنه عقب ما يسمى «مؤتمر اليسار المصري» الذي تم في مقر الحزب وباسهام رئيسي لقياداته (علناً وسراً) لمحاولة بلورة تيار إصلاحي يرتدي مسوحاً يسارية زائفة ليسهم في إرباك الجماهير وتزييف وعيها، وبما يتلاءم مع المرحلة المقبلة التي يتصورونها، عصر انتصار المشروع الصهيو– امبريالي وهيمنته على مصر والإقليم كله؟
هكذا فإن «وراء الأكمة ما وراءها». ذلك أن ما يجري إنما يعبر عن سياق متصل تسير عليه النخبة السياسية– الطبقية المصرية، وفي إثرها الإصلاحيون اليساريون (سابقاً). وهو سياق الصفقات والمقايضات مع السلطة من ناحية، والاستقواء بالخارج أو وفق أجندات التمويل الأجنبي من ناحية أخرى. وفي كل الأحوال فهو سياق يستهدف الحرص على استمرار الطبقة الحاكمة التابعة الغاصبة للثروة والسلطة، وبصرف النظر عن تغيير بعض الوجوه والشخوص، وبما يساعد على تمرير المشروع الصهيو– امبريالي في الإقليم.
أين يكمن التضليل؟
يكمن التضليل في محاولات إضفاء طابع شعبي على كل من جمال مبارك ومحمد البرادعي. وهو ما يحرف الصراع عن مساره، وإشغالنا بصراع وهمي بين شخصيات متماثلة طبقياً وفكرياً وسياسياً، في حين أن الصراع الذي يحاولون طمسه هو بين مشروعين. المشروع الرأسمالي التابع ومن يقف وراءه من حلفاء الصهاينة والامبرياليين. أما المشروع الآخر فهو على النقيض تماماً، إنه مشروع التحرر الوطني والقرار السياسي المستقل والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة والديمقراطية الحقة أي سلطة الكادحين، والتوجه صوب وحدة عربية على أسس ديمقراطية وتقدمية. إن بداية هذا المشروع ومنتهاه يتجسدان في القضية التي تحتوي كل عناصره ومفرداته الطبقية والوطنية والقومية والسياسية والاجتماعية...الخ ألا وهي الصراع العربي– الامبريالي الصهيوني وفي القلب منه رص الصفوف للمقاومة بكل الأساليب، ودعم طلائعها في لبنان وفلسطين والعراق وسورية وإيران وفي كل مكان.
إن ما يجري في مصر هو جزء لا يتجزأ من محاولات العدو الصهيو– امبريالي وعملائه المحليين لترتيب أوضاع المنطقة تحت هيمنته. فهل يساعدنا إدراك ذلك على تشديد النضال ورص الصفوف لاستعادة مصر التي سرقوها منا، وإعادتها إلى مكانها الطبيعي في الإقليم وسط أشقائها وفي العالم؟
إن ذلك يضع على عاتقنا استحقاقات وتضحيات هائلة. لعل هزيمة نهج التضليل تستحق أن تكون في أولوياتنا.