جنوب السودان «ولادة قيصرية»
لا يعرف أحد التاريخ الحقيقي للعيش المشترك لسكان السودان، أكبر دولة عربية من حيث المساحة، وأهم سلة غذاء لشعوب أفريقيا والمنطقة، يغذيها نهر النيل الغني عن كل تعريف.
ومن نافل القول أن السودان هو العمق الاستراتيجي والأمن القومي الأهم لمصر وتوءمها تاريخياً في كل شيء، وأي خلل في هذه المعادلة يصيب دور مصر الإقليمي في الصميم، وهو الدور الذي تميزت به بلاد النيل على مر العصور أفريقياً وعربياً فيما بعد. وإذا تذكرنا الاحتلال الانكليزي لمصر ثم السودان، ندرك وقوع السودان كما مصر في مخططات الامبراطورية البريطانية، حتى تراجعها عن قيادة العالم الرأسمالي في أوساط القرن العشرين لمصلحة الامبريالية الأمريكية، والتي فرضت نفسها «وصياً» على مواقع النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط وخصوصاً في الخليج والقرن الأفريقي!
نذكّر أنه بعد وصول السادات إلى الحكم وارتهانه للقرار الأمريكي ومقولته الشهيرة «بأن 99% من أوراق الحل في المنطقة هي بأيدي أمريكا»، وبعد الدور الظهير الذي لعبه نظام السادات في إجهاض طريق التقدم الاجتماعي والوحدة الوطنية في السودان بشماله وجنوبه، ازداد إلى أقصى حد النفوذ الأمريكي والصهيوني هناك عبر خلق ورعاية أنظمة دكتاتورية عسكرية متلاحقة لا همّ لها إلا الحفاظ على السلطة والثروة وتسعير الصراعات العرقية والدينية والقبلية. وكانت الخطة الأمريكية والتي مازالت مستمرة للآن: فك عرى الارتباط التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والزراعي ـ وخصوصاً المائي ـ بين مصر والسودان أي إضعاف البلدين والسيطرة عليهما استراتيجياً، وتجويع شعبيهما.
ولم يتغير واقع الحال بعد وصول حسني مبارك إلى السلطة في مصر، ففي أعقاب اجتياح الكيان الصهيوني للبنان عام 1982، اندلعت الحرب الأهلية في السودان والتي استمرت من عام 1983 إلى 2005 حيث أسفرت عن مقتل أكثر من مليوني شخص من سكان الشمال والجنوب، وانتشرت الأوبئة واستفحل الجوع والفقر والتخلف وتفككت الدولة الوطنية إلى مناطق نفوذ قبلي وعشائري وعرقي.
وإن بقي لنظام الخرطوم سلطة الولاية الشكلية على الأصقاع البعيدة في البلاد، وبقي الصراع الداخلي في السودان ممسوكاً من الخارج وعلى وجه الخصوص من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني تمويلاً وتسليحاً وتدريباً وبالتواطؤ مع النظام الحاكم في الخرطوم، ولا يغير من هذه الحقيقة حديث النظام الشكلي عن معاداتهما باسم الإسلام.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حملة العداء الإعلامية الغربية ضد نظام البشير وقرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله، كان هدفها الرئيس إخضاع نظام الخرطوم أكثر وإجباره على القبول علانية بانفصال الشمال عن الجنوب الغني بالنفط والموارد الاستراتيجية الأخرى وتهيئة المناخ إلى تفكيك السودان إلى مناطق وكيانات أخرى جديدة (دارفور نموذجاً).
في ظل هذا التوجه التفتيتي كان يجري وضع الحلول للمسألة السودانية منذ «مؤتمر الحوار الوطني لقضايا السلام» عام 1989 وصولاً إلى اتفاقية «نيفاشا» عام 2005 والتي اعترف فيها نظام البشير بمطالب الانفصاليين في الجنوب في السلطة والثروة وترسيم الحدود. وعندما أعلن عن إجراء الاستفتاء منذ خمس سنوات كان واضحاً أن الجنوب ذاهب إلى الانفصال كخطوة أولى نحو تفكيك السودان كدولة وليس كنظام، وحتى ندرك الدور الصهيوني في كل ما سبق نذكر بما اعترفت به وسائل الإعلام الإسرائيلية حول وجود أكثر من ألفي متدرب سوداني جنوبي في الكيان الصهيوني يخضعون لدورات مكثفة في مختلف التخصصات العسكرية والإدارية والمهنية الأخرى، كذلك نذكر بما صرح به سلفاكير رئيس حكومة جنوب السودان وشريك البشير في الحكم حيث قال: «إذا كانت إسرائيل عدوة للشعب الفلسطيني، فهي ليست كذلك بالنسبة لشعب جنوب السودان»!
كان من الواضح أن زيارة عمر حسن البشير إلى جوبا عاصمة الجنوب منذ أيام لم تكن تهدف إلى إقناع حكام الجنوب بالعدول عن الانفصال، وإن قال ذلك لفظاً في خطابه، بل كان الهدف الأساس تثبيت الاتفاق مع القيادة الجنوبية على عدم استضافة المعارضة في الشمال والجنوب، وقد صرح بذلك علناً نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه «أن لا مجال لاستضافة أي معارضة شمالية في الجنوب أو أي معارضة جنوبية في الشمال»!
ومن هنا اتفاق «الشريكين» في الشمال والجنوب على تقسيم السودان شريطة أن يساعد كل منهما الآخر في البقاء في سدة السلطة... وهذه «عينة» من قادة النظام الرسمي العربي والتي لا هم لها إلا البقاء في السلطة والإمساك بالثروة على حساب الاستقلال الوطني وكرامة شعوبها، والتي لا بد سيكون لها موقف آخر في الآتي من الأيام عاجلاً أم آجلاً.