بوتين وشريعة حمورابي
عندما تسلّم بوتين الرئاسة في روسيا في آذار عام 2000، شبهّه العديد من المحللين السياسيين ببطرس الأول، الذي جعل من روسيا دولة عظمى يحسب لها ألف حساب، وشبهّه آخرون بايفان «الرهيب» الذي أرسى الدعائم الأولى للدولة الروسية.
لسنا هنا بصدد تأكيد صحّة أو دحض هذه التشبيهات، لكن ما يمكن استنتاجه، أن الكل كان يجمع على أن بوتين، وبعد وصوله إلى الرئاسة، سوف يعمل على إعادة روسيا إلى مكانتها الطبيعية على الساحة الدولية.
أن بوتين تسلّم السلطة في روسيا بعد مضي حوالي العقد من الزمن على انحلال الاتحاد السوفيتي، أحد القطبين الأعظمين في العالم، حيث تحوّلت روسيا من الدولة الأعظم، إلى دولة تقف على هامش المعادلة السياسية الدولية، ويهددها خطر التقسيم إلى دويلات، وتعاني من اقتصاد متدهور، نتيجة عملية الخصخصة الفوضوية التي جرت فيها، وقادتها رموز مالية مشبوهة، تمكنت من الاستيلاء على مؤسسات اقتصادية ضخمةّ، وبأسعار بخسة تقل أضعاف المرّات عن القيمة الفعلية الدنيا لها، وتنتهج سياسة خارجية مشتّتة، يديرها ثمانية لاعبين أساسيّين، يفتقدون لأدنى مستويات التنسيق والتخطيط المشترك فيما بينهم، أهمّهم الرئيس يلتسن وإدارته، ووزارة الخارجية، وشركات النفط العملاقة، ووزارة الدفاع، والشركة الحكومية لتصدير الأسلحة «روسفوروجينيه»..الخ.
الخطوة الأولى التي أقدم عليها الرئيس بوتين بعد تسلّمه السلطة هي إلغاء الفوضى لدى صنّاع القرار، وحصر سياسة روسيا الخارجية بيد الرئيس. الخطوة الثانية، إعادة النظر في عملية الخصخصة. الخطوة الثالثة هي إعادة المركزية في إدارة البلاد، وتقليص صلاحيات المحافظين، ورؤساء الجمهوريات والمقاطعات الداخلة ضمن روسيا الاتحادية، لمنع انحلال روسيا، الذي كانت تسعى إليه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون.
الانجازات التي حققتها روسيا في ظل رئاسة بوتين الأولى والثانية كثيرة، ولا مجال هنا لتفنيدها، ولعلّ أهمّها أن روسيا كانت تدين للغرب بحوالي 500 مليار دولار عند تسلّمه الرئاسة عام 2000، لكن وعندما سلّم الرئاسة لخلفه ميدفيديف عام 2008، أصبحت روسيا تمتلك احتياطيا ماليا يقدّر ب500 مليار دولار.
ما أريد إلقاء الضوء عليه في هذا المقال، ليست الانجازات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، التي تحققت بعد مجيء بوتين إلى السلطة وهي كثيرة، بل على العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصّة المسائل التي لم تلق القدر الكافي من الاهتمام. وهنا سوف أتناول مسألتين هما برأيي من أهم ما قدمه بوتين لروسيا وللعالم.
المسألة الأولى – السماح للولايات المتحدة وحلف الناتو باستخدام الأجواء والأراضي الروسية للعبور إلى أفغانستان، وإيصال الإمدادات للقوات العسكرية، وإعطاء الضوء الأخضر، أو بالأحرى غض الطرف عن موافقة جمهوريات أسيا الوسطى، بإقامة قواعد عسكرية أمريكية بحجة مساندة قواتها في أفغانستان.
الكثيرون رأوا بذلك حينها انتقاصا من السيادة الروسية، وخطرا يهدد أمن روسيا، ومصالحها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. هذا صحيح من الناحية النظرية، لكن بوتين ضابط الاستخبارات الخارجية السابق يدرك أكثر من غيره، أن المستنقع الأفغاني كان أحد الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وبخاصّة بعد أن قادت أمريكا حملة دولية شعواء، جنّدت خلالها دول الخليج العربية وأموالها، لإرسال المتطوعين وتدريبهم وتزويدهم بالسلاح إلى أفغانستان، لمحاربة الجيش السوفيتي بحجة الدفاع عن الإسلام في مواجهة الخطر الشيوعي القادم من الشمال.
بوتين يعلم تمام اليقين، أنّ ما يهدد روسيا باستعادة دورها على الساحة الدولية، هو الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو الذي أخذ يزحف نحو الشرق، وها هي أمريكا الدولة الأقوى في العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، تقرر طوعاً الدخول في المستنقع الأفغاني، هذا المستنقع الذي كان عصيّاً على الدول الكبرى، وكان سبباً في هلاك بعضها. لذلك قدّم بوتين التسهيلات اللازمة لها ولحلف الناتو. لأنّ روسيا تريد بالفعل أولاً محاربة الإرهاب وبخاصّة أنّها من أكثر الدول التي عانت منه، وثانياً والأهم أن دخول أمريكا إلى أفغانستان هو الطريق الأقصر والأسهل لإضعافها واستنزافها، وهذا ما سيمكّن روسيا من أن تخطو إلى الأمام بثقة أكبر وبأقل التكاليف. أمّا عن القواعد العسكرية في جمهوريات أسيا الوسطى، فروسيا تدرك أن أمريكا عندما تضطر للانسحاب من أفغانستان، لن تكون بحاجة لهذه القواعد، وحتى لو كانت بحاجة لها، لن يكون لديها الإمكانيات المادّية لتمويلها والحفاظ عليها.
المسألة الثانية – لقد نوّه بوتين في مقالة له في إحدى الصحف الروسية، ضمن حملته الانتخابية الأخيرة، قبيل تسلمه السلطة، أنّه ينوي إنفاق حوالي 23 تريليون روبل خلال السنوات العشر القادمة، أي ما يعادل 100مليار دولار سنويا على القوات المسلّحة الروسية، لتطوير الأسلحة القديمة، وصناعة أسلحة جديدة، وإعادة تأهيل القوات المسلّحة لتتمكن البلاد من مواجهة التحديات المحدقة بها نتيجة تطور الأحداث على الساحة الدولية، ثم تصريحه الأخير بأن روسيا ستحقق خلال السنوات العشر القادمة قفزة نوعية في مجال الصناعة العسكرية.
الجميع يذكر أن أحد الأسباب والتي أدت أيضا، إلى انهيار الاتحاد السوفيتي هي برنامج «حرب النجوم» الذي أعلنه الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. برنامج «حرب النجوم» هذا، وحسب المحللين كان سيكلّف الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات، والهدف الرئيسي من إعلانه، هو إجبار الاتحاد السوفيتي على الدخول في سباق تسلّح، غير قادر عملياً على مجاراته، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي كان يعاني منها، بسبب وجوده العسكري في أفغانستان، والمساعدات الكبيرة التي يقدمها للدول الاشتراكية ومن يدور في فلكه، ضمن إطار التوازن الدولي، والحرب الباردة السائدة آنذاك بين المعسكرين الغربي والشرقي.
يدرك بوتين جيداً حجم الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة وحلفائها حاليا والتي كانت الحرب على ما يسمّى بالإرهاب، أحد أسبابها، ويدرك أن سباق التسلّح الذي أعلن عنه، والذي تحتاجه روسيا بالفعل، سيكون له المفعول نفسه الذي أحدثه برنامج « حرب النجوم» سابقاً، والذي سيؤدي إضافة للعوامل الأخرى الكثيرة، إلى انهيار الولايات المتحدة الأمريكية، أو على الأقل تحجيمها، وأن تعود إلى مستوى بعض الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتتخلّى عن دور البلطجي المهيمن على الساحة الدولية.
يمكن الاستنتاج من خلال ما ذكر أعلاه، إن بوتين الذي استوعب جيداً شريعة حمورابي وعمل بموجبها، ستشهد فترة رئاسته الحالية لروسيا، تغيّرات هامّة على الخريطة الجيوسياسية الدولية – ملامحها أخذت تتجلى في الأزمة السورية الحالية - لن تكون بالتأكيد في مصلحة الولايات المتحدة ومشاريعها العدوانية حول العالم.