الأزمة مستمرة في بلاد الإغريق
تواصل الحكومة اليونانية نهجها القائم على مهاجمة حقوق العمال في ظل ازدياد مستمر لظاهرتي الفقر والإقصاء الاجتماعي في البلاد، والسؤال المطروح هنا من المستفيد؟
شاركْتُ منذ عامين في بحث أجري حول « الفقر و العزل الاجتماعي» في عدد من البلدان الأوروبية. وقد كنت – في هذا البحث – مسؤولاً عن بحث تأثير هذه الظواهر في اليونان تحديداً.
الفقر بالمقاييس الوهمية
وبالنسبة لي شخصياً، فأنا لا أؤمن أنه يمكن قياس مستوى الفقر بالمقاييس الاقتصادية الأوروبية الرسمية لأن تعريف الفقر وفقاً لهذه المقايس هو كالتالي :
« الفقير هو من يعيش بمدخول يقل عن 60% من متوسط دخل الأسرة في بلد معين»
أذكر في ذلك الوقت عام 2008 أني تفاجأت بأن معدل الفقر في اليونان – والذي كان يبلغ 20% - هو واحدٌ من أعلى معدلات الفقر في دول الاتحاد الأوروبي.
حيث كان واحد من كل خمسة مواطنين يونانيّين يعيش بمدخولٍ يقل عن 60% من متوسط دخل الأسرة هناك، وكان هذا المتوسط يبلغ (6.480 يورو) سنوياً أي (540 يورو) شهرياً للفرد الواحد، أما في حال الأسرة المؤلفة من أربعة أشخاص فقد كان يبلغ (13.608 يورو) سنوياً و(1.134 يورو) شهرياً. كل هذا في ظل معدل بطالة يتراوح بين 10 - 11%.
الأمر الآخر الذي أدهشني كان التوزيع الظالم للدخول – أيضاً من أعلى المعدلات في أوروبا – حيث كان الـ20% الأغنى بين اليونانيّين يكسبون حوالي ستة أضعاف ما يكسبه الـ20% الأفقر منهم.
وأذكّر هنا أن كل ما سبق كان يحدث في اليونان قبل أن تطبّق إجراءات التقشف فيها.
قرأت منذ عدة أيام آخر الإحصاءات الصادرة عن الوكالة الوطنية للإحصاء والمتعلقة بهذا الموضوع ذاته ووفقاً لهذه الإحصاءات كانت النتائج كالتالي :
وصل معدل الفقر إلى (21.4 %) أي (2.3 مليون مواطن) في ظل ثبات للحد الأدنى للفقر الذي ذكرناه سابقاً بالنسبة لكل من الفرد والأسرة.
وألْفت النظر هنا، إلى أن معدلات الفقر هذه هي المعدلات الرسمية التي دائماً ما تبتعد عن الواقع محاولةً تجميله.
وفي دراسةٍ سابقة أجرتها كل من المدرسة الاقتصادية الفرنسية ومؤسسة (كابا) للدراسات عم 2007 ، تبيّن أن ثلث اليونانيّين يعانون من الفقر وهذا قبل حدوث أزمة 2008 الاقتصادية.
والمثير للقلق هنا أن آخر الإحصاءات الصادرة عن الوكالة الوطنية للإحصاء في 2010 كانت تشير إلى معدل بطالة يبلغ 14% ، بينما وصل هذا المعدل اليوم إلى عتبة الـ25% !
ضعف الإنفاق الحكومي
في الوقت ذاته يصرّ وزير المالية اليوناني يونيس ستورنيراس، على أن اليونان هي أكثر الدول المرفّهة تكلفةً في الاتحاد الأوروبي ولهذا السبب فيجب – حسب رأيه – اقتطاع ما بين 11 – 13 مليار دولار من ميزانية الخدمات الاجتماعية لتغطية هذه التكلفة وبالتالي إرضاء الترويكا الأوروبية والإبقاء على اليونان ضمن منطقة اليورو.
أولاً : إن ما يدعيه وزير المالية لا يعدو كونه كذباً مفضوحاً. فوفقاً لإحصاءات النفقات الاجتماعية، فإن اليونان تنفق حالياً 23.1% من ناتجها المحلي لتمويل الخدمات الاجتماعية. في حين أن وسطي الإنفاق على الخدمات الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي يصل إلى 24% في الوقت الذي تنفق فيه ألمانيا مثلاً 26% وفرنسا 32%. فالإنفاق الاجتماعي في اليونان يقل حتى عن المعدل الوسطي الأوروبي.
ومع ذلك كله فإن وزير المالية اليوناني مازال يملك الجرأة على ممارسة الكذب العلني في محاولةٍ منه لتبرير هذا الاقتطاع الهائل - من ميزانية الإنفاق الاجتماعي – الذي تقوم به حكومته.
وحتى لو كان ما يدّعيه السيد ستورنيراس من أن اليونان هي أكثر الدول المرفهة تكلفةً في الاتحاد الأوروبي، فإن هذا الأمر وحده ليس كافياً.
فمع وجود 23.1% (2.3 مليون مواطن) من السكان المهددين بخطر الفقر، فليس أمام الحكومة اليونانية إلا زيادة النفقات الاجتماعية كي تؤمّن الدعم اللازم لمواطنيها بدلاً من إعطاء الأولوية لسداد ديونها الخارجية على حساب رفاه وحقوق شعبها.
ومع هذا فقد اختارت الحكومة اليونانية وفقاً لشروط الترويكا التي تضمنتها الاتفاقية التي وافق عليها البرلمان اليوناني أن تقتطع مبلغاً وقدره 82 مليون يورو من النفقات الاجتماعية المقرة في ميزانية 2013. هذا وقد أعلنت الحكومة – وأخيراً – عن نيتها فرض ضرائب على كبار الأثرياء تصل قيمتها إلى 80 مليون يورو.
دفع الفاتورة !
لذا ولكي نفهم هذا الأمر بإطاره الصحيح أعيد وأكرر :
إن اليونانيين المحرومين، سيشاركون في إنقاذ اقتصاد بلادهم من الانهيار واستعادة الـ82 مليون يورو والتي – بلا أدنى شك – يحتاجونها للمحافظة على حياتهم الكريم وتأمين العيش الهانئ لهم ولأسرهم.
وعلى المقلب الآخر يسيطر كبار الأثرياء - الذين لا تتجاوز نسبتهم 0.7% من السكان -على ما نسبته 60% من إجمالي ثروة البلاد. وهذا الأمر يدلنا بشكل واضح على الهوية الحقيقية لمن يدفع فاتورة إجراءات التقشّف المفروضة من الترويكا والمطبّقة من الحكومة.
إنه وللأسف الشعب اليوناني بأغلبيته الساحقة.
إن كا ما سبق ما هو إلا نتيجة مباشرة من نتائج خطط التقشف و»الإصلاحات البنيوية» –وفق الوصف الحكومي – التي قامت وتقوم بها الحكومة اليونانية في إطار سعيها لخلق بيئة جاذبة للاسثمارات الأجنبية في اليونان إضافة لمشاريع «التطوير» المزعومة كما يحب المسؤولون هناك تسميتها.
ويبقى السؤال هنا قائماً : لمصلحة من يتم كل هذا ؟