أولاند: لم آتِ لاعتذر!
وقف أولاند أمام البرلمان الجزائري، كما وقف أوباما سابقاً أمام البرلمان المصري، وكما أوباما، رفض أولاند تقديم أي اعتذار للشعب الجزائري عن سني الاستعمار الهمجي طوال 132 عام ( 1830-1962).
زيارة أولاند التي استغرقت عدة أيام شهدت لأول مرة حديثاً عن همجية الاستعمار الفرنسي، وهو ماتثمنه النخبة الحاكمة في الجزائر على مايبدو! وهو ماترى فيه أطرافاً عديدة أقل من المطلوب، حيث من الواجب أن يتم الاعتذار عن تلك الهمجية بالحد الأدنى.
قد يرى البعض في هذه الإشكالية صراعاً ثقافياً لا أكثر، نخبوياً.. ربما، ذلك لأن معظم المُصرّين على الاعتذار هم من الحركة الطلابية المهتمة بهذه القضية التاريخية، لكن النخبة الحاكمة التي استنفرت جموع الناس - عمال وتلاميذ لاتعنيهم زيارة أولاند إلا كما يعنيه لهم زيارة أي من مشاهير كرة القدم- ترى أن الحديث عن ذكريات المجازر الوحشية للاستعمار الفرنسي و ضرورة الاعتذار عنه كمدخل لأي تطبيع، ترى بها ضرباً من الأفكار البالية.
هكذا رأى الوزير الأول عبد المالك سلال، الذي يوصف بأنه «المرمم الرئيس» للعلاقات الجزائرية الفرنسية، ويقول سياسيون إنه عيّن في المنصب لأداء هذه المهمة، حيث أكد سلال أن الجزائر تريد علاقة استراتيجية مع فرنسا دون التطرق إلى الأمور البالية !
وبغض النظر عما يراه سلال، يتحدث البعض على أن أولاند جاء بالكثير في هذا الشأن، فلأول مرة يعترف رئيس فرنسي ، أمام البرلمانيين الجزائريين، بـ«المعاناة» التي تسبب فيها الاستعمار الفرنسي «الجائر والوحشي» للجزائر، كما استهل أولاند يومه الثاني من زيارته إلى الجزائر بوقفتين رمزيتين؛ الأولى في ساحة «موريس اودان»، المناضل الشيوعي الذي عذبته حتى الموت، وحدة الموت التابعة لفرقة سلاح المظليين الفرنسية عام 1957، بسبب انخراطه في صفوف الثورة. أما الوقفة الثانية فكانت في «مقام الشهيد» على مرتفعات مدينة الجزائر العاصمة.
في المحطة الأولى، وقف أولاند والوفد الكبير المرافق مع حشد من المسؤولين الجزائريين في المكان القريب من الجامعة المركزية، التي كان موريس يشتغل بها أستاذاً للرياضيات، إجلالاً لهذا المناضل الذي صارت قضيته رمزاً لوحشية التعذيب الذي مارسه الفرنسيون في الجزائر. أما في المحطة الثانية فقد وضع أولاند إكليلاً من الزهور على النصب التذكاري المُخلّد لشهداء حرب استقلال الجزائر 1954 ـ 1962.قائلاً: «أعترف في هذا المقام بالمعاناة التي سلّطها النظام الاستعماري الفرنسي على الشعب الجزائري. ومن ضمن هذه المعاناة، مجازر سطيف وقالمة وخراطة التي تبقى راسخة في ذاكرة الجزائريين».
لكن أولاند قال أيضاً وبكل وضوح إنه لم يأت للاعتذار، بل تحدث عن : «سلامة الذاكرة، وفي كل الأحوال ومهما كانت الجراح، تبقى هناك علاقة متميزة بين الجزائريين والفرنسيين» وأضاف :«سأتوجه هذا المساء إلى تلمسان مدينة مصالي الحاج، أحد مؤسسي النزعة الوطنية الجزائرية». وهي أيضاً أول مرة يشيد فيها رئيس فرنسي بهذا الزعيم التاريخي الذي كان أول من دعا إلى الاستقلال الكامل عن فرنسا منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وأسس أول نواة لتحضير الكفاح المسلح.
لم يعتذر أولاند رغم كل شيء، إلا أن دولته المأزومة بأكبر أزمة اقتصادية في تاريخها تحتاج اليوم أكثر من ذي قبل إلى غاز الجزائر، ولأجل هذا الغاز صيغت الكثير من الخطب والوقفات الشكلية. نجح في الوصول إلى مبتغاه ، وذلك بعد محاولات فاشلة جرت سابقاً لعقد شراكة استراتيجية بين شركة سوناطراك الجزائرية للنفط و شركة غاز دو فرانس الفرنسية، حيث فشل كل من ميتران في عام 1984 و شيراك عام 2003 في عقد هكذا صفقة. قامت الحكومة الفرنسية من موقع الاسترضاء لا أكثر، بإعادة العمل باتفاقية 1968 التي تمنح الجزائريين المقيمين بفرنسا امتيازات استثنائية على باقي الأجانب وذلك بعد أن ألغاها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.
خلصت الزيارة إلى ستة اتفاقات استراتيجية تخص الدفاع والاقتصاد والتعليم، بالإضافة إلى توقيع على إعلان «الصداقة والتعاون» بعد التخلي عن «معاهدة الصداقة» بسبب فشل المفاوضات حولها منذ 2003.
وفيما يخص «الاعتذار» الحق التاريخي للشعب الجزائري، يبدو أنه سيُغيّب، مثلما غيّبت النخبة الحاكمة عيوب التبادل اللامتكافئ بين اقتصاد الجزائر الذي سيمنح فر نسا طاقة رخيصة في عز أزمتها.
إن الاعتذار الذي واجهه أولاند بالرفض لا يعني مطلقاً حقا ثقافياً وحسب، بل هو تعبير عن إرادة الفرنسي بالتعامل الندي وعندما يرفض الفرنسيون ذلك في هذا المجال، فعلينا أن نتخيل مدى حجم التنازلات في المجالات الأخطر، وذلك في صفقات المال والغاز التي تمت بين الطرفين والتي قد تجحف كثيراً بحق الشعب الجزائري كم أجحف عدم الاعتذار بكرامته التاريخية.