الدولة المراقب الفرح المفهوم.. والحقائق العنيدة
نالت دولة فلسطين صفة عضو مراقب في الأمم المتحدة. صوتت مائة وثماني وثلاثون دولة عضواً في المنظمة الدولية لمصلحة إعطاء فلسطين هذه الصفة. كانت السلطة الفلسطينية قد توجهت إلى المنظمة الدولية سابقاً، لتحصيل مكانة دولة عضو في المنظمة الدولية، ولكن الولايات المتحدة، ومعها حلفاء غربيون وعرب، قد أحبطت هذا المسعى في حينه، وعُرض على الفلسطينيين، التقدم مرة أخرى إلى الجمعية العامة، وليس إلى مجلس الأمن للحصول على مكانة عضو مراقب. وهذا ما كان. ثم جاء آوان الاحتفال «بالإنجاز الكبير»، وتبادل التهاني، مع انتعاش الحلم الفلسطيني بالدولة مجدداً.
الفرح المفهوم
بداية، فإن هناك العديد من الأسباب المفهومة للفرح، وللحالة الاحتفالية التي يعيشها كثير من الفلسطينيين هذه الأيام. وفي طليعتها حقيقة أن المنظمة الدولية المسماة بالأمم المتحدة، ظلّت على الدوام رمزاً حياً للظلم الذي حاق بالشعب الفلسطيني، وكان لهذه المنظمة إسهام كبير فيه. فهي التي أصدرت قرارها الشهير بتقسيم فلسطين(القرار181 في 29/11/1947). وهو القرار الذي شكل «سنداً قانونياً» لقيام دولة «إسرائيل» على جزء كبير من الأراضي الفلسطينية. ورغم أن العصابات الصهيونية أقامت «دولتها» في فلسطين استناداً إلى هذا القرار، فقد تجاوزته من اللحظة الأولى، وضمت كثيراً من الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، في القرار الدولي، دون أن تحرك الأمم المتحدة ساكناً. ومن ثم فإن كل القرارات التي أصدرتها، واعتُبرت انتصاراً جزئياً للحق الفلسطيني(القرار 194 مثلاً. وهو الذي يلزم دولة «إسرائيل» بتنفيذه، لجعل القرار 181 نافذاً) لم تطبق. ولم تبحث المنظمة الدولية لا في مجلس أمنها، ولا في جمعيتها العامة، أية آلية لتنفيذ القرارات الصادرة عنها.
وعلى مدى سنوات عديدة، وإلى آونة التقدم بطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، وبعد ذلك، وقف الفيتو الأمريكي سداً منيعاً لحماية دولة الاحتلال، حتى من مجرد الإدانة على الممارسات العدوانية والوحشية ضد الشعب الفلسطيني.
ولهذا فإن الكثيرين سيعتبرون الحصول على قرار من الجمعية العامة، يَعترف بفلسطين كعضو مراقب نوعاً من الإنجاز الذي يستحق الاحتفال. خصوصاً، وهنا نأتي إلى النقطة الثانية، أن القرار كما يبدو، صدر رغماً عن إرادة «إسرائيل» والولايات المتحدة. لقد رفضت الولايات المتحدة، و»إسرائيل» المسعى الفلسطيني منذ البداية. وواشنطن هي التي أحبطت إمكان الحصول على صفة الدولة العضو. وجندت نفوذها على مستوى العالم، من خلال الحلفاء والتابعين، لمنع الفلسطينيين من التوجه إلى مجلس الأمن. وقد جرى عرض صيغة الحصول على صفة العضو المراقب، كصيغة حل وسط من حلفاء أمريكا و»إسرائيل». كانت فرنسا وراء طرح هذه الصيغة، ومع ذلك لم تغير واشنطن موقفها. وبعد صدور القرار اعتبرته الولايات المتحدة «مؤسفا». ورأت دولة الاحتلال أن شيئاً على أرض الواقع لن يتغير.
من المتصور أن الموقف الذي عرضه الغربيون كحل وسط، لم يكن دون موافقة أمريكية، كما أن تصويت الكثيرين من تابعي وأذيال أمريكا، لم يكن بعيداً عن موافقة واشنطن، وربما عدم ممانعتها. وهذا مجال بحث يطول، حول أسباب التغير في الموقف الغربي، وموقف التابعين للولايات المتحدة، وحتى حول التراجع في منسوب التهديدات «الإسرائيلية». ولكن الالتفات إلى هذه الموضوعات، لا يحدث في اللحظات الاحتفالية. وجل ما يهتم له المحتفلون الآن، هو أن القرار صدر رغماً عن أمريكا، ورغماً عن «إسرائيل» وكل إرغام لهذين يستحق الاحتفال من حيث المبدأ.
النقطة الثالثة حول مسببات الفرح، ترتبط بحجم الضخ الإعلامي والدعائي حول «الدولة»، وحول انعكاسات هذا القرار، على «التطلع الفلسطيني» للحصول على دولة. هنا تتداخل الأوهام بالحقائق. وتغيب الأسئلة الكبرى، في زحمة الحديث عن الإنجاز والانتصار التاريخي.. والدولة التي صارت وراء الباب. فعندما يجري تصوير مسعى دبلوماسي، على أنه معركة حياة أو موت، سيكون الفوز كلياً أو جزئياً مدعاة للإحساس بالنصر، والنصر يأتي لمن يشعر به بالفرح.ولكن!
الحقائق العنيدة
الوهم هو البعد الفعلي عن الواقع. ومن ينخرط فيه، يكون غاضباً بإزاء كل من يحاول إعادته إلى الواقع، وأيضا بإزاء كل من يطرح الأسئلة «المنغصة». عملياً ليس هذا هو القصد هنا. ولكن أمام خياري: الانخراط في الأوهام. أو العودة إلى طرح الأسئلة المنغصة ورفض الوهم، فإن الخيار الثاني هو الأصوب دون أدنى شك.
والسؤال الأول هو: عن أي فلسطين يجري الحديث؟ فلسطين التي حصلت على صفة العضو المراقب في المنظمة الدولية، هي دولة مفترضة على 18% من الأرض الفلسطينية التاريخية. لن نعرض هنا للمسار التاريخي المعروف، لهذا المسلسل التنازلي الذي أسفر عن تعيين فلسطين من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، بأنها الضفة والقطاع، أو ال 18% من الأرض الفلسطينية. ولكن استصدار قرار دولي يثبت هذا التنازل، ومن ثم وصفه بانتصار، يوجب الفرح والتهليل والمراسم الاحتفالية، هو نوع من تأبيد اغتصاب فلسطين التي نعرفها.
لقد كان هناك حديث عن المطالبة بتطبيق قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، وهو يضمن للفلسطينيين نحو نصف الأرض الفلسطينية. شيء كهذا يستحق أن يوصف بأنه معركة دبلوماسية جدية.
ليس من فائدة الآن لأي نقاش، قد يوصف بالواقعي، أو أنه مبني على معطيات واقع ضاغط ومختل لمصلحة العدو. لكن لا شيء يبرر التنازل عن الحقوق، والاحتفال بذلك أيضاً. فلسطين كلها هي من حق الشعب الفلسطيني. والتنازل عنها من أجل دولة مفترضة أو حتى واقعية، هو أمر غير مبرر، وهو أمر غير مقبول أيضاً.
أما السؤال الثاني: فحول مستقبل ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وصلتهم بهذه الدولة. هنا ثمة قرار دولي يتحدث عن عودة اللاجئين إلى أراضيهم وديارهم التي اقتلعوا منها. هل القرار الجديد يجب ما قبله؟ لقد رفضت واشنطن ودولة الاحتلال دوما التعامل مع هذا القرار. وتكفل الخطاب الرسمي الفلسطيني والعربي طبعاً، بتقديم الحلول عبر طرح مفهوم «الحل العادل والمتفق عليه» وهو يعني إلغاءً عملياً لحق العودة. وبالتالي فإن القرار الذي ينص على صفة العضو المراقب للدولة الفلسطينية، لا يتضمن أية إشارات إلى القرارات السابقة. ومنها القرار الخاص بحق العودة. وهو لم يأت على ذكر اللاجئين أو الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم أصلا.
سؤال آخر: ما هي حدود تلك «الدولة المراقب»؟ القرار غامض وغير واضح أبداً بهذا الخصوص. رئيس السلطة الفلسطينية يقول: صار لنا دولة عاصمتها القدس الشريف. القرار لم يتحدث عن دولة تقوم على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. هو قال بمنح فلسطين صفة العضو المراقب. وهنا يعود السؤال: عن أي فلسطين يجري الحديث؟ إن القرار كما يقول البعض، يراد له أن يفتح باب التفاوض. والتفاوض لإقامة دولة بشروط الاحتلال، ستجعل الأخير طرفاً مقرراً لحدودها. ومنذ وقت طويل يدور الكلام عن حل في الأراضي المحتلة عام 1967، وليس عن دولة على الأراضي المحتلة عام 67. وهذه مشكلة كبيرة أخرى.
وأيضاً وأيضاً، فالقرار لا يحمل أي صفة إلزامية. هو قرار للجمعية العامة. ولا آليات لتنفيذه. الاحتلال وبعد صدور القرار بوقت قصير، قرر بناء ثلاثة آلاف وحدة استيطانية في الضفة المحتلة. أراد بذلك أن يجسد عملياً، رؤيته بأن القرار لن يغير شيئاً على أرض الواقع. فكيف سيكون التعامل مع الاستيطان الزاحف؟ وما هي آليات الرد عليه استناداً إلى القرار الأممي الجديد؟
من بين ما سيق واعتُبر إنجازاً متحصلاً عن صفة الدولة المراقب، هو إمكانية التخاطب مع المنظمات الدولية المتخصصة، وتقديم شكاوى ضد الاحتلال، ضد جرائمه ومستوطناته. ومع أن التجربة على هذا الصعيد تحفل بإشارات دالة، ومن ذلك كيفية التعامل مع قرار محكمة العدل الدولية بخصوص جدار الفصل، فإن الاحتفاء بإمكان التخاطب مع محمكة العدل الدولية وسواها، لا يعني أن الشكاوى التي ستقدمها السلطة، سوف تنتهي بقرارات قابلة للتنفيذ.
القرار والتفاوض
من الواضح أن موافقة واشنطن على تصويت حلفاء لها لمصلحة القرار، يستهدف تحريك ما يسمى بالعملية السياسية. لقد طالبت السلطة مراراً بتجميد الاستيطان لتعود إلى المفاوضات. لم تستطع الولايات المتحدة أخذ قرار من حكومة الاحتلال بهذا الخصوص. ولم تستطع السلطة العودة إلى التفاوض، دون أن تتوفر لها إمكانية القول بأنها حصلت على شيء تبرر به العودة إلى المفاوضات. مع صدور القرار الدولي، وحال الاحتفاء الكبيرة به، ستكون هناك عودة سريعة للمفاوضات، تحت غطاء القرار ذاته. سيقال: نذهب إلى المفاوضات لتحصيل دولة، بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. في هذه المفاوضات لن يغير الاحتلال لاءاته. وستكون الجولة مديدة. وسيستمر الاستيطان وتهويد القدس والتنسيق الأمني. ستتغير توصيفات المفاوضين، ولن تتغير وجوههم ولا طريقة أدائهم. وقد حظوا بتبريك مسبق على الإنجاز الكبير، حتى من قوى لطالما أدانت «الدولة المسخ». ما الذي تغير؟ تغيرت أشياء كثيرة، أعداد الغارقين في الأوهام تزايدت.