أوسلو ..التنسيق الأمني والإداري

استكمالاً للمراجعة النقدية لاتفاقية أوسلو التي بدأنا بها في العدد السابق سنضيء في هذه الحلقة على فكرة الحكم الذاتي والبنود التي تتضمن التعاون الأمني والإداري بين الجانبين.

حول الحكم الذاتي

شكلت فكرة إقامة نوع من  الحكم الذاتي والانسحاب الجزئي من أراضي غزة وأريحا وهم لدى صانعي الاتفاق في الجانب الفلسطيني والمدافعين عنه بأنها الخطوة الأولى نحو بناء الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، بينما وفي المقابل كانت لدى «الإسرائيليين» عبارة عن تكتيك واضح ومحدد يهدف لخدمة استراتيجية مرسومة مسبقاً، حيث جاء اقتراح الحكم الذاتي في الأساس من بيغن – شارون وثبت في اتفاقيات كامب ديفيد، ثم أعيد إحياؤه من خلال شامير – رابين عام 1989 وقد أريد منه أن يحقق عدة أهداف: الأول أن يصبح هو موضوع التفاوض بدلاً من الانسحاب وتطبيق قرار 242، وأن يؤمن ثانياً إبقاء الوجود «الإسرائيلي» في الضفة الغربية والقطاع وإبقاء السيطرة العسكرية والأمنية .

وبالعودة إلى نص الاتفاق نجد في البند الثالث عشر: إعادة انتشار القوات «الإسرائيلية».

«وبإعادة انتشار قواتها العسكرية فإن «إسرائيل» ستتبع المبادئ التي تفيد بأنه يجب إعادة انتشار قواتها العسكرية خارج المناطق السكانية، وسيتم تطبيق تدريجي لعمليات إعادة انتشار أخرى إلى مواقع محددة وفقاً لتولي المسؤوليات تجاه النظام العام والأمن الداخلي من قبل قوة الشرطة الفلسطينية». أي أنه في حقيقة الأمر لم يكن هناك انسحاب شامل يضمن السيطرة لقوات الشرطة، بل كان عبارة عن إعادة انتشار وانسحاب من المناطق الآهلة بالسكان فقط.

 وحول هذه النقطة  جاء في تقرير معهد واشنطن «متابعة السلام- استراتيجية أمريكية لعملية السلام العربية – الإسرائيلية»: ( إن القناعة بأن على «إسرائيل» أن تسيطر على المناطق ولكن دون استيعاب سكانها يتقاطع حولها الحزبان العمل والليكود، فالمعادلة التي يخدمها مقترح الحكم الذاتي من وجهة النظر «الإسرائيلية» هي الحفاظ على الأمن والسيطرة العامة على المناطق مع تخليص «إسرائيل» من المسؤولية عن السكان العرب).

 

التنسيق الأمني والإداري

بينما تم الإلتفاف على القضايا الجوهرية كالقدس واللّاجئين والمستوطنات بتأجيلها إلى وقت لاحق، كانت المفاوضات في أوسلو تدور حول تفصيلات جزئية ابتعدت حتى عن التحديد السياسي للحكم الذاتي وهذا ما سمح بتفريغه إلى الحد الأقصى وبالتالي أفقده كل إمكانية للتحول إلى ما هو أكثر من كيان إداري .

وجاء في البند السادس من نص الاتفاقية حول نقل الصلاحيات والمسؤوليات:

« بعد دخول إعلان المبادئ هذا حيز التنفيذ والانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا ستنقل السلطة إلى الفلسطينيين في المجالات التالية التعليم والثقافة، الصحة، الشؤون الإجتماعية، الضرائب المباشرة والسياحة، وسيشرع الجانب الفلسطيني في بناء قوة الشرطة الفلسطينية حسب ما هو متفق عليه »

وحول هذه النقطة كتب الباحث منير شفيق « إن اتفاق أوسلو أعفى الاحتلال من كل ما هو وسخ بالنسبة إلى كل احتلال، أي الصدام بالأهالي وإنزال الجيش للسيطرة المباشرة على السكان فضلاً عن التبعات المالية فيما يتعلق بذلك، أو بشؤون الخدمات الصحية والتعليمية والإدارية، أو بكلمة أخرى أصبح هناك احتلال «نظيف» مدفوع الأجر، وهذا أمر لا مثيل له في كل ما عرفته الشعوب من حالات احتلال، أي تبقي السيطرة العسكرية والإشراف العام للاحتلال «الإسرائيلي» على الوضع كله بينما يتولى المقهورون شؤون المحافظة على الأمن والإنفاق على الخدمات واستجلاب الأموال التي سيأخذ منها الاحتلال نصيب الأسد «.

ولهذا يرى تقرير واشنطن أن الإشكالية التي تواجه المفاوض «الإسرائيلي» ليس القبول بفكرة الحكم الذاتي الفلسطيني فهي فكرته، وإنما كيف يحدد تفصيلات الحكم الذاتي أو بعبارة أدق كيف تقتسم الصلاحيات في الضفة الغربية والقطاع بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين.

وحول النظام العام والأمن جاء في نص الاتفاقية البند الثامن:

« من أجل ضمان النظام العام والأمن الداخلي لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة سيشكل المجلس قوة شرطة فلسطينية قوية بينما تواصل «إسرائيل» تحمل مسؤولية الدفاع ضد المخاطر الخارجية وكذلك مسؤولية أمن» الإسرائيليين» العام بغرض حماية أمنهم الداخلي والنظام العام »

كما جاء في نص الاتفاقية أيضاً: تشكل لجنة تعاون وتنسيق فلسطينية – «إسرائيلية» مشتركة لأهداف أمنية متبادلة.

يمكننا أن نلخص اتفاق أوسلو بما يلي : بقاء الاحتلال «الإسرائيلي» والسيادة «الإسرائيلية» على فلسطين كلها بما في ذلك قطاع غزة وأريحا، أما الانسحاب من القطاع وأريحا وإقامة نوع من الحكم الذاتي الانتقالي، فهو انسحاب للجيش من المناطق الآهلة بالسكان حيث الانتفاضة والمقاومة وتسليم الأمن فيها للشرطة الفلسطينية، وبهذا إعفاء للاحتلال من الإصطدام بالفلسطينيين مع بقائه مسيطراً على الوضع عموماً وممسكاً بكل النقاط الاستراتيجية على كل الحدود وفي كل النقاط المشرفة وفي الطرقات الواصلة فيما بين المدن والقرى، وقد أعطي الجيش الصهيوني حق العودة إلى احتلال كل منطقة سكانية تحت الحكم الذاتي إذا فشل الأخير في المحافظة على أمن الاحتلال فيها.

 

بين المقاومة والتسوية

رغم أن اتفاق أوسلو كان متوافقاً مع مصالح الكيان الصهيوني إلا أنه لم يلتزم حتى به، بل كانت ممارساته على أرض الواقع أكثر سوءاً، والقضايا التي كانت مؤجلة إلى المرحلة النهائية كالقدس والمستوطنات تم التعامل معها بسياسة الأمر الواقع، فتضاعف الاستيطان واستمرت عمليات تهويد القدس، وذلك لأن الكيان على عكس منظمة التحرير، استند إلى قوته العسكرية وضعف العامل الذاتي للطرف الآخر مستفيداً كذلك من التوازن الدولي.

 إن واقع أوسلو يدل وبشكل واضح أن نهج التسوية هو ذو تكاليف أعلى من نهج المقاومة، خاصة اليوم وبعد أن أثبتت المقاومة أنها وحدها القادرة على فرض شروطها فإن الشعب الفلسطيني بكافة قواه وأطيافه يقف أمام استحقاق مراجعة دقيقة وشاملة لحقبة أوسلو وما تلاها من مفاوضات، والاستفادة من التحول النوعي الذي حققته فصائل المقاومة والسير قدمأ في نفس الطريق الذي أثبت أنه هو وحده ضمانة التحرير والاستقلال ..