التدخل العسكري في مالي
لايمكن لمستعمر أن ينسى تاريخه، فالاستعمار على مايبدو ليس عبارة عن رغبة سياسية لجهة ما بمقدار ماهو إحدى آليات النظام الرأسمالي الذي يتأزم فيزداد عنفاً وقمعاً واستعماراً. وهاهو الآن يعود مجدداً لكن من قبل فرنسا القوة الاستعمارية البائدة والتي تحاول الهروب من أزمتها الداخلية بانتشار جديد في مستعمراتها القديمة في إفريقيا.
إدعاءات واهية
تقول الرواية الإعلامية إن سبب التدخل الفرنسي -الذي لايزال يبحث عن الغطاء الدولي- هو انتشار المسلحين في شمال البلاد، والذين يقسمون إلى ثلاث جهات (حركة أنصار الدين-تنظيم القاعدة-وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا). ورغم إعلان حركة أنصار الدين عن نبذها للتطرف وحديثها عن سعيها لمحاربة الجريمة المنظمة وقبولها للحوار والحل السياسي، إضافة إلى دعوتها إلى إلقاء السلاح بعد مساع جزائرية، إلا أن الأمور لاتزال تؤشر إلى احتمال التدخل العسكري.
في هذه الأثناء يجتمع رؤساء أركان دول غرب إفريقيا لوضع تفاصيل العملية العسكرية في مالي بعد توصيات خبراء دوليين بذلك، و قال الجنرال صومايلا باكايوكو رئيس هيئة أركان الجيش في ساحل العاج الذي تترأس بلاده المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا عند افتتاح الاجتماع أن الهدف هو «التفاهم سريعاً على تصور لعملية من أجل مساعدة مالي سريعاً على استعادة الشمال». تسعى فرنسا حتى اللحظة للحصول على تفويض دولي من مجلس الأمن الذي سينعقد في 26نوفمبر تشرين الثاني حيث ستتنطح هي للدعم اللوجستي والاستخباراتي مقابل تورط الجيوش الأفريقية بالأعمال القتالية المباشرة.
توريط فاضح
تبين وضعية دول الساحل والصحراء، بما فيها دول غرب إفريقيا، بأنها أبعد ما تكون عن الدول القادرة على امتلاك منظومة دفاعية قوية، فإن دولاً مثل مالي وموريتانيا والنيجر وبوركينافاسو لا يتجاوز مبلغ ما تنفقه مجتمعة على قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية مبلغ 160 مليون دولار، إلى جانب ضعف تعداد القوات العسكرية (أقل من 20 ألف فرد بالنسبة لموريتانيا و10 آلاف لكل من النيجر ومالي) وافتقارها للمعدات، ويلاحظ نقص واضح في تعداد قوات الأمن ما يتناقض تماماً مع كبر مساحة هذه الدول وخصوصياتها كمنطقة معرضة لكل الأخطار وتمتد، طبيعياً، حتى القرن الإفريقي وتتجاوز مساحتها الخمسة ملايين كيلومتر مربع.
أما قوات الجماعات الجهادية المسلحة فتقدر بأكثر من ألفي فرد (حوالي 700 فرد من أنصار الدين، أكثر من 600 تابعين للقاعدة، أكثر من 300 ينتمون لحركة التوحيد والجهاد وبعض المنتمين لحركة بوكو حرام، حوالي 400 جاؤوا من أفغانستان وبعض الدول العربية وحتى من أوروبا). هذه المجموعات التي تأخذ من شمال مالي (مساحته تساوي مساحة دولتي فرنسا وإسبانيا معاً) ميدانا لنشاطها وتحركاتها، منظمة في شكل مجموعات صغيرة مدربة على حرب العصابات وبعض أفرادها ينشطون في منطقة الساحل منذ عدة سنوات وتربطهم علاقات تجارية مع بعض السكان المحليين. هم إذاً على معرفة جيدة بالأرض ومتعودون على مناخها وجغرافيتها.
تدرك الدول الكبرى الراغبة في التدخل العسكري جيداً بأن كل تدخل أجنبي في أية قضية داخلية لا يحل الأزمة بقدر ما يؤزمها أكثر، والأمثلة عديدة على ذلك: الجيش الأمريكي فر من ميدان الحرب أمام التفجير الذي أصاب قيادتهم في بيروت وبعدها أمام الصوماليين، نفس الجيش خلق مستنقعاً في العراق ثم فر منه تاركا العراقيين يتقاتلون بين بعضهم البعض، والجيش الأمريكي مع قوات من دول كبرى عديدة، فشل في القضاء على حركة طالبان وعناصر القاعدة في أفغانستان.
هذه الدول تدرك أيضاً بأن جيوش الدول الإفريقية هي جيوش ضعيفة ومهلهلة وغير مجهزة ولا مدربة على الحروب في مناطق صحراوية قاحلة ضد مجموعات متطرفة تستعمل أسلوب حرب العصابات في مواجهة الجيوش النظامية.
هذا كله معروف وواضح لدى هذه الدول ومع ذلك فهي تصر على التدخل العسكري في شمال مالي، فما هي الخلفيات الحقيقية لهذا الإصرار؟ وكم ستكلف هذه الحرب ومن سيمولها؟
تعميم الفوضى
قال المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لمنطقة الساحل الأفريقي رومانو برودي بعد مباحثات مع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، إن التدخل العسكري في مالي التي وقع شمالها بين أيدي إسلاميين متشددين، سيكون «الحل الأخير» ، وتفتش الجزائر باستمرار عن حل سياسي لهذه الأزمة.
الأمر بالنسبة للدول الكبرى، خاصة فرنسا وأمريكا، جد واضح وهو أن التدخل سيكون بقوات إفريقية وأن دورها (الدول الكبرى) سيتلخص في تقديم الدعم اللوجستي والتقني، وتعداد القوات الإفريقية التي يتكلمون عنها لا يتجاوز الأربعة آلاف فرد يتم تجميعهم من جيوش مجموعة دول غرب إفريقيا، لا شك أن آخر أُمّي في الاستراتيجية العسكرية يدرك، بمجرد الإطلاع على مساحة منطقة العمليات وتعداد القوة المخصصة للحرب بأنه يدفع بهذه القوة إلى الانتحار.
إن تصميم أمريكا وفرنسا على الخيار العسكري وتفضيله عن كل الحلول الأخرى، يجعلنا نخمن بأن الجزائر إحدى أهم الدول المستهدفة من هذه الحرب، فبعد أن تمكنت قوى الغرب من ترويض مصر الدولة الكبرى في شمال إفريقيا والتي لم تستعد عافيتها بعد، إضافة إلى الإمساك بتونس وإدخال ليبيا في حرب الميلشيات بعد غزوها ونهب نفطها، يبدو أن الدور وصل إلى الجزائر لتعزلها عن عمقها الإفريقي الهام والاستراتيجي، وذلك لتحقيق الغايات التالية:
أولاً: إضعاف جيشها بإغراقه في المستنقع المالي، فالحرب ستتوسع وستدوم لسنوات طويلة لأن مثل هذه الحروب من شأنها أن تستقطب كل الباحثين عن المغامرة في العالم وكل الذين يريدون محاربة من يسمونهم، في أدبياتهم، بالصليبيين وأتباعهم، وكل من يريد الشهادة، كما يقولون، دفاعا عن الإسلام. نعم إضعاف الجيش الجزائري، الذي كثيراً ما تكلمت عنه الصحافة ال»إسرائيلية» معتبرة إياه جيشاً عدواً، والذي لايزال يحمل إرثاً معادياً للغرب وتدخلاته خاصة في حالة مالي خلافاً لبعض أطراف النظام الجزائري الذين لايعارضون التدخل.
ثانياً: تلهية الجزائر بحرب الساحل لينفرد العرش الملكي بالصحراء الغربية فيلتهمها وقد يستعيد شهية 1963 في غياب الوحدات العسكرية الجزائرية.
ثالثاً: استنزاف احتياطات الصرف الجزائرية لأن للحرب كلفة معتبرة. يقول بعض الخبراء العسكريين إن حرب شمال مالي تتطلب، بتعداد 3500 فرد مبلغا يقدر بحوالي مليار دولار لسنة 2013 وحدها. ولأن هذه الحرب ستتوسع وتطول فستستهلك الملايين من الدولارات الإضافية، ناهيك عن أزمات التهجير والإجراءات الأمنية التي تستدعي زيادة النفقات لحماية الحدود الجزائرية ويبقى السؤال المطروح والذي لم يجب عنه أي أحد هو: من سيمول؟!
وإذا عرفنا بأن الدول الأوروبية كلها تمر بأزمة اقتصادية وأن أمريكا منغمسة في حرب أفغانستان، وأن بهذه الدول رأياً عاماً يرفض تحمل تكاليف حرب تقع على بعد الآلاف من الكيلومترات،عندما نعرف كل هذا، ندرك أسباب تعدد زيارات مسؤوليهم إلى الجزائر.