بين شرعيّتين
بالتدقيق بالوضع المصري سنجد أن هناك خلطاً متعمداً بين فكرتين رئيسيتين هما : «الشرعية الثورية» و»شرعية صندوق الاقتراع».
يقول البعض أن الإخوان انقلبوا على الشرعية الثورية، فهم أصلاً آخر الواصلين إلى ميدان التحرير وأول المغادرين له، لكن شرعية صندوق الاقتراع التي ترضي تلهفات الكثير من المهووسين بالديمقراطية، منحت الإخوان موقعاً متقدماً، يعي الإخوان جيداً أن هذا الصندوق هو مصباح علي بابا في هذا الزمان وهو مايستدعي منهم فركه جيداً.
سياسة الإخوان، وأخطاء الغير
لكن الكارثة الكبرى التي لم يلحظها إلا قلة نزرة في الشارع المصري، أن إنجازات الإخوان المتكررة ليست تعبيراً عن تقدم نوعي في وزنهم السياسي الحقيقي، أي لا ازدياد في مقدار تعبيرهم عن مصالح الجماهير، التعبير الذي يعني عملياً أنهم قد يستندون إلى مرتكزات الشرعية الثورية، بل إن هذه الإنجازات مستندة في أغلب الأحيان إلى الاستقطابات الثنائية التي تسهم في خلقها القوى المقابلة لهم- جهلاً أو عمداً - عشية كل احتكام إلى صندوق الاقتراع.
يبدي الإخوان مع كل اعتراض للقوى المناهضة لحكمهم، مرونة وبراغماتية عالية تجعلهم أصحاب الغلبة في نهاية المطاف، يُضاف ذلك إلى قدرتهم التنظيمية التاريخية، فالبراغماتية أداة إخوانية كونهم قوى ليبرالية وإن كانت ذات ثقافة أصولية، والأصولية تعلمهم أهمية العمل الجماعي المنظّم. ولنلاحظ كل تلك الإجراءات التي أقدم عليها الإخوان وتراجعوا عنها مثل إقالة النائب العام، وتغيير الإعلان الدستوري، وكلاهما تم التراجع عنهما سريعاً بضغط شعبي واسع. صحيح إن كل هذه الإجراءات تنم عن تخبط وفشل استراتيجي لكن التراجع عنها يعطي فرصة آنية لأصحباها للاستمرار طالما غابت الضربة القاضية المقابلة.
الدستور الجديد
يتقدم الإخوان ببطء وذلك بسبب اضطرارهم للالتفاف حول كل العقد الإشكالية، ومع اقتراب معركة الدستور الذي صاغوه بأنفسهم نجد أن القوى الأخرى لا تملك سوى حشد قواها للرفض وفقط. ودعونا الآن نستعرض أبرز النقاط الدستورية التي تعتبر تجلياً بسيطاً لوقائع فاضحة:
1- المادة 14 تنص على ربط الأجر بالإنتاج، وليس بالأسعار! كما لم تتضمن ربط الحد الأدنى بالحد الأقصى للأجور، ولم تحدد الحد الأدنى أو معيار حسابه، وفتحت الباب أمام الاستثناء من الحد الأقصى للأجور.
2-المادة 62 تنص على أن تخصص الدولة للرعاية الصحية نسبة كافية من الناتج القومى، دون تحديد النسبة أو حتى تحديد أولويتها في الموازنة العامة، وهي صياغة مطاطة، تفتح الباب أمام استمرار الوضع كما هو، بأن يكون إنفاق الدولة على التعليم والصحة مجتمعين أقل من ثلث الإنفاق على الداخلية!
3-المادة 202 تنص على أن يعين رئيس الجمهورية رؤساء الهيئات الرقابية. والأصل أن تمارس هذه الأجهزة رقابتها على جميع مؤسسات الدولة - بما فيها مؤسسة الرئاسة - وبالتالي يجب ضمان استقلالها.
4-المادة 215 تجعل تنظيم شؤون البث المسموع، والمرئي، والصحافة المطبوعة، والرقمية، والرقابة عليها من اختصاص المجلس الوطني للإعلام، وهو مجلس مُعَيّن يسحب من سلطات نقابة الصحفيين ومجلسها المنتخب، بما يهدد استقلال الإعلام، الذي سينظم أموره ويشرف عليه ويراقبه مجلس معين بواسطة السلطة التنفيذية.
5-المادة 176 تجعل من رئيس الجمهورية مصدر قرار تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وهو ما يشكل تدخلاً من السلطة التنفيذية في السلطة التشريعية، ويهدر مبدأ الفصل بين السلطات.
هذه المواد وغيرها من المواد الإشكالية التي تنم عن قصور في توصيف جوهر النظام السابق واكتشاف مثالبه، لم تكن لتنجح لو أنه تم الاتفاق المسبق على مبادئ عليا يتم صياغة الدستور وفقاً لها. نلاحظ من خلال الصياغات السابقة عدم إعطاء القضية الاقتصادية وزناً حقيقياً، وتركها من قبل معظم القوى لإملاءات صندوق النقد والقطريين والاتحاد الاوروبي والمساعدات الأمريكية التي تسيل لعاب الإخوان وغيرهم بقروضهم السخية.
كما أن القضية الديمقراطية التي تُركت للاحتكام المبكر لشرعية صندوق الإقتراع بدلاً من الشرعية الثورية التي كان ينبغي أن تفضي لمرحلة انتقالية تتوافق عليها القوى الثورية والقوى الاجتماعية الأساسية المناقضة حقيقة للنظام السابق، أسهمت أيضاً في صياغات أقل مايقال عنها إنها إعادة ربط الوضع الحالي بالمرحلة السابقة للثورة. لقد أسهم الضخ الإعلامي حول أولوية القضية الديمقراطية في إفراغ الثورة من مضمونها الاقتصادي-الاجتماعي، و دُفع المزاج العام إلى الاحتكام لصندوق الاقتراع بدلاً من الاحتكام إلى الشرعية الثورية التي لم يُسع جدياً إلى صياغة خطوطها العريضة.
تونس أيضاً
ليس الوضع التونسي أفضل حالاً من ناحية استمرار الصراع دونما وضوح تغيرات نوعية في مجراه، إلا أن التطورات الأخيرة في سليانة وقبلها في سيدي بوزيد على وقع الجوع والبطالة توحي إن الحراك آخذ في التجذر. إن وجود الاتحاد التونسي للشغل إضافة إلى بعض القوى الجذرية في وجه القوى المهيمنة على السلطة، أمّن حتى اللحظة حضوراً جدياً لمقولة الشرعية الثورية، فأساس مطالب هذه الجهات هو القضية الاجتماعية. في هذا السياق جاء الاتفاق الأخير بين الاتحاد و الحكومة والذي أفضى إلى إلغاء الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد في 13ديسمبر كانون الأول، كتعبير عن امتثال الحكومة للشرعية الثورية رغم أنها تتمتع بشرعية صندوق الاقتراع. إلا أن مااتفق عليه لمعالجة بعض الإشكاليات الراهنية كقضية الهجوم على الاتحاد يعد أقل من المأمول حيث أملت الجماهير برفع سقف المطالب جدياً بعد أن دعا الاتحاد إلى اضراب عام وشامل في كافة أرجاء تونس .
إن ماجرى عملياً في تونس هو وضع حد للحكومة في محاولاتها اللاهثة للانتقاص من أحد أهم القوى الثورية، إلا أن المطلوب في الأسابيع القليلة المقبلة التقدم نحو طرح قضايا التغيير الجذرية التي خرج لأجلها أنصار الثورة التونسية و أنصار الاتحاد ومهمشو تونس الذين طالبوا بشكل واضح بحل قضايا الفقراء وقضايا العاطلين عن العمل قبل كل شيء.