المعترك اللاتيني.. اشتقاق المواجهة الاستراتيجية الدولية
تلقت قوى اليمين في أمريكا اللاتينية دفعاً قوياً يهدد بوضع قارة المحرِّر الثوري، سيمون بوليفار، على صفيح ساخن. فبعد نجاح «الانقلاب الناعم» في دفع الرئيسة البرازيلية، ديلما روسيف، خارج القصر الرئاسي، بدأت قوى اليمين الفنزويلي في التحرك سريعاً، قبل أن تصطدم في جدار «تجذير الثورة» الذي أعلن الرئيس، نيكولاس مادورو، عزم إدارته على المضي نحوه بعد إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
إعلان مادورو حالة الطوارئ كان قد سبقه تصريحات استفزازية علنية من مسؤولين اثنين في المخابرات الأمريكية، مفادها أن الولايات المتحدة تشعر بـ«قلق متزايد إزاء احتمال حدوث انهيار اقتصادي وسياسي في فنزويلا»، لـ«يتوقعا» بناء عليه، عدم إكمال مادورو ولايته الرئاسية.
«شارة الانطلاق» هذه، التي تعي أوساط اليمين الفنزويلي فك شيفرتها، من الممكن لها أن تتحول إلى شرارة لانفلات قوى اليمين من عقالها، وتهديد البلاد، التي ترزح بالأصل تحت وطأة الحرب الاقتصادية الشرسة، بانقلاب شبيه إلى حد بعيد بالانقلاب البرازيلي الذي لم تحسم نهاياته بعد.
حرب نفط.. أم أزمة حكم؟
عملياً، انقسمت التحليلات التي تطرقت إلى موضوع التوتير في أمريكا اللاتينية، بين اتجاهين اثنين، قام الأول منهما بقصر أسباب تراجع الأحزاب اليسارية الحاكمة على المؤامرة الأمريكية، التي تأتي حرب أسعار النفط لتشكل واحدة من مفرداتها وأدوات عملها، بينما حاول الثاني اجترار الاتهامات المكرورة لقوى اليسار اللاتيني بـ«سأم الناس من بيروقراطية الأحزاب اليسارية التي لم تقدم لشعوبها سوى طوابير الانتظار الطويلة».
إذا كان لا يمكن لأحد إنكار أهمية حرب أسعار النفط، وتأثيرها على أداء الدول اللاتينية التي تعتمد معظم اقتصاداتها على واردات النفط بشكل خاص، إلا أنه لا بد من الإقرار بأن ذلك التراجع لم يبدأ فعلياً بعد انخفاض أسعار النفط عالمياً، بل قبل ذلك. هنا نذكر بأن الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، على سبيل المثال، كان قد نجح في الانتخابات الرئاسية عام 2013 بشق الأنفس، بعد فوزه على منافسه المعارض، هنريك كابرليس، بفارق ضئيل لم يتعد 1.5% من مجموع أصوات الناخبين. أي أن الأزمة فعلياً كانت سابقة لحرب النفط، وجاءت تلك الأخيرة لترفع من منسوبها.
البرازيل نموذجاً..
تكمن المشكلة في أمريكا اللاتينية بأن الحكومات اليسارية المتعاقبة كانت قد اتخذت خلال فترات حكمها إجراءات إصلاحية مهمة، بينما كان سقف المطلوب اجتماعياً أعلى من ذلك، أي أنه في الفترة التي كانت تجري فيها تلك الإصلاحات، كان المجتمع يحتاج فعلياً إلى إجراءات ثورية، تقطع مع مصالح قوى رأس المال المرتبطة عضوياً بواشنطن، والتي لا تزال تحظى بوجود فاعل في أمريكا اللاتينية.
غير أن الاعتراف بهذه الحقيقة، لا يعني بشكل من الأشكال التساوق مع البروباغندا الغربية حول «بيروقراطية» الأحزاب اليسارية الحاكمة في أمريكا اللاتينية، وحول أن تلك الأحزاب لم تقدم شيئاً لشعوبها. فالبرازيل، نموذجاً، استطاعت أن تحقق قفزات نوعية في حقبة حكم «حزب العمال»، حيث ارتفع عدد الوظائف السنوية المؤمنة من قبل الحكومة من 627000 عام 2002، إلى 1.790.000 عام 2013. وارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 2.810 دولار في 2002، إلى 11.208 في 2013. كما ازداد الإنفاق على التعليم من 17 مليار دولار في عام 2002، إلى 94 مليار دولار في 2013، والإنفاق على الرعاية الصحية من 28 مليار دولار في 2002، إلى 106 مليار دولار في 2013. في المقابل، انخفضت نسبة البطالة من 12.2 في 2002، إلى 5.4 في عام 2012. بينما هبط معدل الفقر من 34% عام 2002، إلى 15% في 2012، ليخرج بذلك ما يزيد على 22 مليون مواطن من الفقر المدقع.
«التجذير» هو الحل
إن مجمل ما تشهده الساحة اللاتينية من أحداث، يقودنا إلى تقييم الوضع الراهن فيها انطلاقاً من الأساسات التالية:
أولاً: إن التغيرات في موازين القوى الدولية- والتي تلقى ترجمتها الفعلية في تراجع القطب الأمريكي، وتقدم القطب الروسي- الصيني عالمياً- تدفع اليوم بالولايات المتحدة نحو التركيز على أمريكا اللاتينية والعمل على إعادتها إلى «حديقة خلفية» لواشنطن، وتحديداً لقوى رأس المال المالي العالمي الإجرامي التي يتضيق حبل المشنقة حول تجارتها في «الاقتصاد الأسود»، ولنا في المحاولات الروسية الجدية لمكافحة التجارة بالنفط السوري المهرب، والتجارة بالمخدرات في آسيا الوسطى، أكبر مثال على ذلك.
ثانياً: إن كان ضرب أمريكا اللاتينية دفعة واحدة عصياً على من يريد إخضاعها، فإن أسهل السُّبل إلى ذلك يتمثل في التلويح بعصا «الانقلابات الناعمة» إلى بعض الدول، كالأرجنتين، والبرازيل، واليوم فنزويلا، ومحاولة احتواء بعض الدول، واستخدام ما يمكن من أدوات سيطرة اقتصادية وسياسية «ناعمة»، كما تجري المحاولات اليوم مع كوبا.
ثالثاً: المتابع لسير عملية التدخل الأمريكي في الدول اللاتينية، يمكنه أن يلاحظ أنها بدأت مفاعيلها، أولاً: في الدول الأكثر عرضة للتخبط والاهتزازات الاقتصادية- الاجتماعية، الأرجنتين، فالبرازيل، ففنزويلا، وكوبا على طول الخط، وفي المقام الأول، تعود أسباب تلك الاهتزازات عملياً إلى أن انتهاج سياسة «الإصلاح» داخل المنظومة الرأسمالية نفسها لم تعد تتوافق مع ما يتيحه الظرف الدولي من تغييرات استحق أوانها لمصلحة الشعوب.
خطف القارة
لا يمكن وفق معادلات اليوم
إذا كان ضرب الدول اللاتينية قد استند أساساً إلى الاهتزازات الناجمة عن الثبات عند حدود «الإصلاح»، فإن المهمة الأولى المطلوبة لإنقاذ بلاد بوليفار من مخاطر التمدد الأمريكي (المتراجع عالمياً) تكمن في تجذير السياسات الاقتصادية- الاجتماعية اليسارية لمصلحة شعوب القارة، ما يمثل ضربة قاصمة لظهور قوى اليمين التي تعتمد في حركتها على الثغرات الناجمة عن سقف «الإصلاح» الذي لم يعد كافياً لهذه الشعوب. وبما أن هجوم واشنطن يجري على دول اليسار اللاتيني ككل، وبأشكال متباينة، فإن الرد الفعلي يقتضي تفعيل قنوات التنسيق بين قوى اليسار في أمريكا اللاتينية، للوقوف صفاً واحداً في وجه قوة دولية متراجعة تعاني من آلام الصفعات التي تتلقاها في غير مكان من العالم، مع التذكير بأن أمريكا اللاتينية لم تتحول بعد إلى مسرح صراع دولي مكشوف بعد، كما هي الحال في مناطق أخرى من العالم، ومع أزمات مختلفة فيه.
وهذا يعني، أن المعركة في أمريكا اللاتينية مرتبطة إلى حد بعيد بالمعركة الاستراتيجية التي تخاض اليوم بمستويات متفاوتة في العالم بين القطبين الأمريكي من جهة، والروسي الصيني الصاعد من جهة أخرى. ولذلك، فإن محاولات واشنطن للاستحواذ على أمريكا اللاتينية تتطلب موازين قوى دولية تسمح بالاستفراد الأمريكي عالمياً، وهو ما لم يعد بالإمكان اليوم..