المنظمات غير الحكومية «NGOs» آليات مدنية لاختراقات مخابراتية

ليس من الخفي على أحد، أن دول العالم الثالث عانت ولا تزال تعاني من مطامع جيوسياسية يقودها في التاريخ الحديث الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول التي تتقاطع معها في المصالح.

ما قد يخفى على الكثيرين، هو الآليات والوسائل التي تستخدمها لتنفيذ تلك المطامع، والتي قد تأخذ أشكالاً مختلفة ومتجددة ذات طابع ثقافي أو إعلامي، وقد تتخفى تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحيث أن معظم الدول النامية تعاني من تدهور في الأوضاع المعيشية وغياب الحريات السياسية ومن فساد حكومي، فقد أصبحت مجتمعاتها مجتمعات قابلة للاختراق بشكل أسهل، وتعتبر بعض منظمات المجتمع المدني الممولة خارجياً جزءاً مهماً من تلك الاختراقات التي تسهم في تنفيذ أهداف محددة.

الارتباط المخابراتي تاريخياً

لم تكد الحرب العالمية الثانية تؤذن بالنهاية معلنة هزيمة الفاشية حتى كانت بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي بما يمثله من القيم الاشتراكية وقيم تحرر الشعوب، وبين الولايات المتحدة بسياساتها الليبرالية وديمقراطيتها المزيفة، وامتداد هذه الحرب لأكثر من نصف قرن، خلق ميادين مبارزة لم تكن مألوفة من قبل، وفي هذا السياق نذكر حدثين مهمين:

الأول هو مشروع مارشال القائد العام للحربية الأمريكية، الذي عرض مشروعاً اقتصادياً يتضمن مساعدة أوروبا ببرامج مالية ضخمة تمنع انهيارها (أي وقوعها في الشيوعية)، وهذا ما أعلن عن تحول الصراع من صراع ثقافي محدود إلى حرب حقيقة على صعيد التكلفة الاقتصادية، وبعد شهر واحد من الإعلان عن مشروع مارشال تم إنشاء وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ، حيث أضيف إلى دورها كمنسق بين المعلومات العسكرية والدبلوماسية دور آخر في غاية الغموض، تم تعريفه بإلحاق عبارة «خدمة المصلحة العامة»، هذه العبارة التي سمحت بتمدّد الوكالة بين دور النشر ومحطات الإذاعة وشركات التأمين وغيرها من المؤسسات.

الحدث الثاني هو عقد مؤتمر حرية الثقافة في برلين عام 1950 ، والذي كان وراء انعقاده رؤية تفيد بأن الأسلوب الأمثل للتصدي للشيوعية يتمثل باسترجاع أعداداً كبيرة من المثقفين الذين اعتمدوا الفكر الاشتراكي وخاب أملهم بالإتحاد السوفييتي. شارك في المؤتمر أعداد كبيرة من اليساريين وهي مشاركة انطوت على إشارة خفية عن استعدادهم للمشاركة في نشاط لا تستطيع تمويله سوى الولايات المتحدة، وهذه الإشارة المشجعة أنبتت ما سمي بـ»منظمة حرية الثقافة». حيث أصبح لتلك المنظمة دور كبير في استقطاب مثقفين كان ميؤوساً من استقطابهم، لذلك نقلت مقرها من برلين إلى باريس، حيث أمنت تمويل وفير من مؤسسات مالية كبرى كان كافياً لإطلاق الجوائز ودور النشر ولتبنّي الكتب والترويج لهما ومكافأتهم على خدماتهم في مجال حرية الثقافة. وأكمل مركز بحث المعلومات IRD البريطاني دور هذه المنظمة بتشجيعه لإصدار مجلات في البلدان النامية (منها مجلة حوار العربية).

الاختراق الثقافي في الوطن العربي

تولّد عن منظمة «حرية الثقافة» التي مثلت الحرب الثقافية الأمريكية عدد لا متناه من المؤسسات ومراكز الأبحاث والجمعيات التي تحمل غالبيتها عناوين حقوق الإنسان ورعاية الضحايا والمقعدين وحل الصراعات، ومناهضة الاستبداد والتعصب والديكتاتورية، وحماية حقوق الأٌقليات إلخ.. وتمكنت من استقطاب عدد كبير من المفكّرين والكتّاب والعلماء والفنانين العرب سواء كان ذلك بعلمهم ومعرفتهم بخلفيتها المخابراتية أم دون معرفتهم، حيث وجدت هذه المؤسسات تربة خصبة لها في الدول العربية التي لا تخصص ميزانيات كافية للثقافة وللبحوث العلمية والدراسات، الأمر الذي سهل تغلغلها في أوساط مثقفي وباحثي تلك الدول لترفع من يتوافق مع السياسة الأميركية وتتجاهل بل تحارب من يخالفها.

لكن الحصول على تمويل هذه المؤسسات يشترط خضوع النشاط للشروط التالية:

1- أن يعتمد كلياً على المعايير والمقاييس المستوردة من الخارج، وهذا الاعتماد كفيل بتحويل هذه الدراسات إلى مجموعة تُهم معلبة وجاهزة ومسبقة النتائج ضد الدول الفقيرة التي تجري فيها الدراسات.

2- حظر تداول البحوث باعتبارها من الأسرار المؤجلة الإعلان بحيث يتم تسريب هذه المعلومات إلى المؤسسات الأجنبية في غفلة من الدوائر الرسمية عن أهمية هذه المعلومات .

3- أن تصب هذه الدراسات والنشاطات في دعم الحملات التي تقودها هذه المؤسسات بصورة مباشرة.

وبالتالي نشطت شخصيات ثقافية وعلمية وهيئات عربية لتتفنن في لي عنق الحقيقة لتلائم نتائجها مع النتائج الموضوعة لها مسبقاً مخدّمة بذلك الدول الخارجية بمصالحها المعادية على حساب مصلحة الوطن.

نماذج لعمل هذه المنظمات

تمارس بعض المنظمات غير الحكومية أدواراً مشبوهة في سورية في ظل الأزمة حيث جاء في صحيفة « واشنطن بوست» أن الإدارة الأمريكية سترسل مساعدات نقدية إلى بعض المجموعات المعارضة السورية في الداخل عن طريق المنظمات غير الحكومية. وحيث أن تلك المنظمات التابعة للاستخبارات الأمريكية تتخفى تحت شعارات المجتمع المدني فإن قدرتها ستكون أكبر على المساهمة في تنفيذ الأجندات الأمريكية غير المعلنة مما يستدعي ضرورة ملاحقة تلك المنظمات ومراقبتها وطردها مما يشكل ضربات قاضية لاستراتيجية صناعة المجتمعات العربية على الطريقة الأمريكية.

ومن هذه المؤسسات، مؤسسة فريدوم هاوس المتهمة بإدارة برامج لزعزعة الاستقرار في نظم « الدول المعادية « للولايات المتحدة، حيث كشفت مجلة فايننشال تايمز أنها كانت واحدة من عدة منظمات مختارة من الدولة للحصول على تمويل الأنشطة السرية داخل إيران بما في ذلك تمويل وتدريب الجماعات التي تسعى الى تغيير النظام.

وفي الأردن تقوم السفارة الأمريكية ببرنامج تعليمي متكامل مدعوم منها يجري تعميمه على المنطقة بالإضافة لتقديمها خطة ترجمة للعديد من الكتب من دور النشر تتراوح قيمة الدعم مابين مليون دولار إلى 2 مليون دولار، وهي كتب تهتم بالديمقراطية والمجتمع المدني والتسامح ومحاربة الإرهاب وتحسين الصورة الأميركية.

في مصر قدمت أمريكا 100 مليون دولار للحكومة ضمن مشروع عرف باسم برنامج الكتاب القومي للمدارس القومية، والذي تقوم بتنفيذه السفارة الأمريكية في القاهرة ويهدف إلى توفير الكتب والمواد التعليمية لنحو 39 ألف مدرسة حكومية في جميع محافظات مصر بداية من مرحلة الحضانة حتى الثانوية العامة.

وقدمت الولايات المتحدة في مصر عام 2009، حوالي 1،419،426 دولار من المنح دفعت لمنظمات المجتمع المدني ، وفي عام 2010 ارتفع المبلغ بشكل كبير، حيث بلغ 2،497،457.11 دولار تقريباً وخصص نصف هذا المبلغ لإقامة ورشات عمل حول جذب منظمات المجتمع المدني وتمكينها من المشاركة في العملية الديمقراطية من خلال تعزيز قدرتها في الترويج لسياسة الإصلاح وتحرير الأسواق، كما تلقت مؤسسة فريدوم هاوس مبلغ 89،000 دولار لإدارة التنسيق وإدارة التعاون التعاون بين النشطاء على شبكات الانترنت والمدونين المحليين.