درس المرحلة العقوبات أسقطت بلا تنازلات
رُفعت العقوبات الاقتصادية عن إيران. هنأت طهران نفسها، واحتفل مواطنوها بالنصر في الساحات العامة. في السابق، غالباً ما قمعت الولايات المتحدة وأدواتها «تجارب» البرامج «النووية» ودمرتها، سواء بالسلاح العسكري (كما أُدعي في العراق)، أو بسلاح الدبلوماسية (كما روّج في ليبيا). فهل يحق للإيرانيين، وحلفائهم الدوليين، الاحتفال فيما حققوه؟
يختلف منطق «الصفقة الدولية» التي جرت مؤخراً حول البرنامج النووي الإيراني، عما سبقها من صفقات جاءت بعد فترة هزائم عسكرية كبرى، كتعبير عن خسارات سياسية أفضت إلى تنازلات عميقة قدمتها الأنظمة الحاكمة، للحفاظ على مصالحها من النار الأمريكية التي تساوقت معها معظم السياسات العربية.
مرحلة جديدة.. بشروط جديدة
جرت تلك الصفقات في ظل موازين قوى دولية عكست هيمنة غربية أرخت بظلالها ردحاً من الزمن. أما المفاوضات بين إيران والسداسية الدولية، فقد خلصت للاعتراف بحق طهران في الاستفادة السلمية من الطاقة النووية.
ربما من الوهم الاعتقاد أن رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران جاء ثمرة لفتح دبلوماسي هنا أو هناك. إذ لم تكن الحنكة الدبلوماسية نقيصة المفاوضين الإيرانيين والروس والصينيين خلال الأعوام الكثيرة التي كانت تطالب فيها إيران بالحل السلمي لملفها النووي. إنما تغير موازين القوى الدولية، ودخول الهيمنة الأمريكية المتماوتة إلى غرفة الإنعاش، قد أعطيا دفعاً وافراً للجهود الدبلوماسية وحنكتها.
ستعود إيران إلى السوق العالمية بزخم قوي، لتعرض ما لديها، وتستورد ما تحتاج. وخلافاً للقيود المفروضة على الدول ذات «التجارب النووية»، بما في ذلك شعار «النفط مقابل الغذاء» سيء الصيت، لن تكون إيران ملزمة بتقديم تنازلات سياسية أو اقتصادية مقابل التمويل والتعاون.
النمو الصاعد هدف ما بعد العقوبات
بعد الإعلان عن نجاح الاتفاق النووي، أوصى «المرشد العام»، علي خامنئي، في اجتماع له مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بأن يكون معدل النمو الاقتصادي المستهدف بعد رفع العقوبات عند حدود 8%، فيما تتوقع طهران- التي تنتظر مسودة مشروع قرار الموازنة للسنة «الفارسية» الجديدة (التي ستبدأ في شهر آذار القادم)- أن تكون الموازنة أوسع من نظيرتها للعام الماضي، حيث شهدت تراجعات ناتجة عن انخفاض أسعار النفط نحو ما يقارب 30 دولار للبرميل الواحد. غير أن الإفراج عن الاحتياطات المالية المحتجزة لدى الغرب، سيوفر لإيران مبالغ مالية كبرى (تصل التقديرات إلى حدود 100 مليار دولار)، كما تنتظر إيران استثمارات روسية على المدى المتوسط بحوالي 30 مليار دولار، لدعم مشاريع الطاقة والكهرباء، وغيرها من الاستثمارات.
الاستعداد لموجة نمو قادمة
بعد رفع العقوبات، ستسمح عودة طهران إلى نظام التبادل المالي العالمي برفع معدلات انتاجها للنفط إلى مستويات قياسية، مما سيشكل داعماً إضافياً لتغطية النقص في إيرادات الميزانية عن العام الماضي.
سينعكس رفع العقوبات عن إيران على وزنها الإقليمي، في ظل غرق المنافسين الإقليميين بحروبهم: تركيا في شبه حالة حرب أهلية داخلية، وأزمة اقتصادية- اجتماعية عميقة، والسعودية في تكلفة تورطها بملفات عدة. وفي حرب أسعار النفط، يقدر باحثون اقتصاديون، أن انعكاس تقلبات الأسعار العالمية من شأنه أن يؤثر على السعودية أكثر من روسيا وإيران اللتين لا تعتمدان على النفط بشكل مطلق. لهذا السبب، يعد الصعود الإيراني في المنطقة مساراً موضوعياً، مما سيسهم في تغيير خارطة الاستقطاب الإقليمي بشكل كامل.
في السياق ذاته، يعد الاتفاق النووي الإيراني فرصة سانحة لدول المنطقة للمطالبة بحقها في الاستفادة السلمية من الطاقة النووية، وسابقة تاريخية ستسمح لدول مثل مصر بالحصول على الطاقة النووية بالتعاون مع القوى الصاعدة عالمياً، وهو ما يفتح الباب أيضاً للحديث عن إعادة ترتيب العلاقات الإيرانية المصرية، بما يحقق الأمن الجماعي ويحافظ على سيادة الدولتين، مثلما يفتح الباب مشرعاً أمام وضع الترسانة النووية «الإسرائيلية» على طاولة البحث.
ليست رهينة للاستثمارات..
أعلنت طهران عن مشاريع واعدة في مجال الطاقة الكهربائية، تستهدف توليد 26 ألف ميغاواط جديدة، مما قد يشير إلى عزم إيراني على عدم البحث عن مشاريع في قطاعات الخدمات والبنوك، بل عن تهيئة البنية الاقتصادية الإيرانية لاستقبال الصناعات الكبرى، ذات الاعتماد الواسع على التكنولوجيا العالية، دون الاضطرار لتقديم تنازلات سياسية.
في الإشارات السياسية، يبدو الخطاب الإيراني حريصاً على التأكيد بأن «الولايات المتحدة لم تزل دولة استكبار وعدوان واحتلال»، وأن «موقف إيران منها لم يتغير، رغم الاتفاق النووي»، وربما يدلل ذلك على أن طهران بصدد حسم أمرها، وفقاً للموازين الجديدة، لتمكين التحالف مع روسيا والصين، اللتين لا تشترطان تنازلات سياسية واقتصادية مجحفة مقابل تعاونهما مع الدول الصديقة.
الانتصار النووي السلمي ورفع العقوبات اللذين حققتهما إيران، ومعها حلفاؤها، من شأنه أن يشكل نموذجاً لإدارة الصراع مع الغرب، وهو مثال عن طريقة فهم منطق مرحلة التقدم التاريخية التي يمر فيها قطب الشعوب اليوم.