الشعبوية اليمينية.. خط دفاع عن منظومة تتراجع
لا تقتصر القضية على المرشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية، دونالد ترامب..! كذلك، ليست القصة مقتصرة على ترامب وماري لوبان، زعيمة «الجبهة الوطنية» في فرنسا. إن شبح الشعبوية اليمينية يطارد الكوكب كاملاً، ويضعنا جميعاً في حالة من القلق الدائم.
لا تدخل الشعبوية اليمينية التي نراها تكتسح العالم شكلياً اليوم في نطاق الصراع السياسي على برامج ورؤى سياسية، بل إنها اتجاه محدد داخل المنظومة ككل، اتجاه يسعى إلى خلق البدائل عن المنظمات الفاشية التي تتلقى الضربات في العالم كله. بحيث ترتفع هذه الشعبوية، كرد على الحركات الاجتماعية التقدمية، ويتحدد ظهورها هذا في أوقات الأزمات الاقتصادية التي يثبت خلالها النظام الرأسمالي أنه مختل اختلالاً عضوياً.
تطرح الشعبوية اليميينة نفسها كمدافع عن «الشعب»، ضد مختلف النخب والقوى «الغريبة»، وغالباً ما يجري تحديد النخب التي تتوجه لها هذه الشعبوية على أسس عرقية/ إثنية/ دينية.. إلخ. وفي حين أن بعض هذه الشعبوية قد تتخذ لنفسها لغة تذكر من يراها للمرة الأولى ببعض الشعارات اليسارية، تبقى هذه الشعبوية صورة كاريكاتورية مخادعة تهدف إلى إبعاد المؤيدين، والمؤيدين المحتملين، لليسار الحقيقي والمشاريع التقدمية.
أزمات ثانوية.. للتعمية على الأساسية
أخطر ما تكتسيه هذه الشعبوية اليمينية هو لا عقلانيتها. فكما يمكن للمرء أن يلاحظ في حملة دونالد ترامب، فإن الأخير لم يتقيد أبداً بالحقائق. ويتبدى «طيش» هذه الشعبوية، في حديثها المتكرر عن «الأزمة» التي يواجهها «السكان البيض» في الولايات المتحدة، وأجزاء كثيرة من العالم الرأسمالي. ويعتمدون في زعمهم هذا، إلى أن «البيض» يفقدون عالمهم القديم «المتفكك»، نظراً للتغيرات الاقتصادية الضخمة، فضلاً عن التغيرات الديمغرافية.
على ماذا يعتمد ترامب وغيره في الحديث عن «أزمة السكان البيض»؟ ببساطة، يعتمد على الحقيقة التي باتت مطلقة اليوم، بأن سياسة «الرجل الأبيض» (وهذا المصطلح يدل على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وقوتها)، باتت واهنة في العالم اليوم. إذاً، تعتمد الشعبوية اليمينية على الانكسار الإمبريالي في العالم، لتعبئ ما يمكن تعبئته من «بيض»، ضد «الآخرين- السود، المسلمين، القوميات، الأعراق.. إلخ»، ليجري لاحقاً تحوير الأزمة الرأسمالية داخلياً في الولايات المتحدة، لتنتج ما يشبه خلافاً ثانوياً بين السكان الموحدين في خضوعهم لنير الرأسمالية.
من أين يأتي هؤلاء اليمينيون؟
أليس من المريب جداً، أن ظهور الشعبوية الييمنية مرتبط اليوم بتلك البلدان التي تظهر نوعاً ما من التوجه نحو اليسار؟ وعلى النحو ذاته، أليس من المريب والمشكوك به أن ظهور هذه الشعبوية يأتي في البلدان «المتقدمة»، بمثابة منفذ للقوى السياسية الحاكمة؟ ألا يفتح دونالد ترامب، الطريق أمام هيلاري كلينتون، مثلاً؟
مثلما علينا ألا نغفل أن هذا الخطاب هو ردة فعل، علينا كذلك أن نكون جاهزين للتصدي له، من خلال المنابر الموحدة لقوى اليسار، وزيادة مستوى التنسيق الفاعل فيما بينها، من اليسار اللاتيني إلى الأوروبي غير الخاضع لرأس المال، إلى الآسيوي والعربي. أمام اليسار اليوم مهمة جدية تتمثل في رفع الصوت عالياً، وفي جبهة واحدة مع تعدد المنابر، بأن هذا الزمن هو زمن يساري، لكن المنظومة تدافع عن رمقها الأخير بتقديم قواها «البديلة»، ساعة برداء يميني يخاطب الرؤوس الحامية، وساعة أخرى برداء «يساري» يلاحق المتجهين نحو الحقيقة بمحاولات أخيرة لاستقطابهم.
كاتب أمريكي، باحث في مركز الدراسات العليا في جامعة نيويورك.