«أفكار شفهية».. الكيان المأزوم يدخل من بوابة أخرى

«أفكار شفهية».. الكيان المأزوم يدخل من بوابة أخرى

خلال الأسبوع الماضي، تصدَّر المشهد الفلسطيني حدثان أساسيان، يفيد الأول بتفاقم حالة انقسام الفصائل الفلسطينية، إثر الأنباء عن إعادة تشكيل حكومة «الوفاق»، أما الثاني، فيتجسد في الحديث المتصاعد عن «هدنة طويلة الأمد» يجري الإعداد لها في قطاع غزة.

منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، تقف البشرية أمام أزمة جديدة، وأكثر اشتداداً من سابقاتها، تصيب المنظومة الرأسمالية ككل، وتتجلى في تراجع متسارع يصيب المركز الإمبريالي في الولايات المتحدة، وينعكس بدوره على أدوات هذا المركز وقواعده المتقدمة في العالم، لا سيما لدى الكيان الصهيوني الذي مني بخمس هزائم عسكرية متتالية، منذ بدء التراجع الإمبريالي.

على أساس تلك الهزائم، ضاقت هوامش المناورة أمام المحاولات العسكرية الفاشلة والمتكررة للكيان الصهيوني، ما يجعله محكوماً بالتوجه نحو خطط بديلة تؤمن الهدف ذاته في فلسطين المحتلة، من دون أن يعني ذلك تورطاً عسكرياً، تتزايد كلفه الاقتصادية حرباً إثر حرب. وفي الحالة الملموسة، يؤمن استمرار الانقسام في الداخل الفلسطيني نتيجة غياب البرنامج الوطني على أساس المقاومة من جهة، والعمل على تقييد عمل المقاومة الفلسطينية، والتضييق عليها باتفاقيات أو «هدن طويلة الأمد» من جهة أخرى، مساحة زمنية مناسبة للعدو الصهيوني كي يتجنب انعكاسات التراجع الإمبريالي العالمي عليه.

في هذا الصدد، تضاربت الأنباء خلال الأسبوع الماضي عن نية رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، إنهاء حكومة «التوافق»، وإعادة تشكيلها من جديد تحت رئاسة رامي الحمد الله نفسه، وهو ما ترفضه «حماس» بشدة، نظراً لكونه قد يكون ممهداً لتغييرات تطال وزراءها في الحكومة، لا سيما إن جرى ذلك دون التشاور المسبق معها. 

وبالنظر إلى وظيفة تلك الخلافات صهيونياً، فمن المرجح أن يجري تأجيج الصراع بين الفصائل الفلسطينية، بما يؤمن استمرار الانقسام الفلسطيني لمدة أطول.

..من بوابةٍ أخرى

بدوره، يخرج الحديث عن «هدنة طويلة الأمد» يجري الإعداد لها في قطاع غزة، ليسلط الضوء على سياسة أكثر خطورة للعدو الصهيوني. بحسب التسريبات، والتصريحات الرسمية التي تلتها، تلعب بعض الوفود الأوروبية، والقطرية، دور الوسيط بين العدو الصهيوني وحركة «حماس»، حاملةً معها مشروع «هدنة طويلة الأمد»، قد تمتد بين 10-15 عاماً في قطاع غزة، مقابل «فك الحصار» عنه، وإنشاء ميناء بحري فيه.

من جهتها، لم تنفِ حركة «حماس» تلك التسريبات، وإن اختلفت تصريحات مسؤوليها في هذا الصدد. ففيما أكد مسؤول العلاقات الدولية في الحركة، أسامة حمدان، أن الأخيرة تسلمت مشروعاً مكتوباً يتعلق بالتهدئة، أكد عضو المكتب السياسي لها، موسى أبو مرزوق، أن «الأفكار كانت شفهية.. وعن طريق السفراء والمبعوثين السياسيين». أما الموقف من فكرة الهدنة بالمجمل، فكان يلحقه مسؤولو الحركة بالحديث المطول عن عمليات «إعادة الإعمار، إنهاء الحصار، إعادة تشغيل المطار، وبناء ميناء غزة»..!

الانشغال الإيراني السوري؟

مع الساعات الأولى للحديث عن هذا الطرح، وفي ظل المماحكات السياسية والإعلامية الفلسطينية التي طغت على تغطية الإعلام العربي للتسريبات، بدأ الكلام الساعي إلى تبرير احتمال قبول مثل ذلك المشروع، بما مفاده: «إن الداعمين الإقليميين لمشروع المقاومة، إيران وسورية، يعيشان اليوم حالة إشغال طويلة.. إيران في ملفها النووي، وسورية في أزمتها الداخلية».

قد يبدو هذا الكلام، للوهلة الأولى، «منطقياً» بعض الشيء، لكن بحثاً دقيقاً في الملف الفلسطيني، بعيداً عن الغباش الذي تسببه المتغيرات الإقليمية هنا وهناك، يؤكد أن الظرف الدولي، الذي بدوره يؤثر ويحدد بدرجة كبيرة طبيعة المتغيرات الإقليمية والمحلية، لم يزل يؤكد حالة التراجع التي تصيب المنظومة الإمبريالية العالمية. وهذا ما يفسر لجوء العدو إلى مثل تلك «المشاريع» في هذا الوقت، مشاريع الاحتواء ومحاولة كسر المقاومة في غزة بالترغيب السياسي والاقتصادي، بعدما فشلت المحاولات السابقة في كسرها، عبر العسكرة والعدوان والترهيب.

السؤال هنا: عندما يكون المحتل في حالة تراجع عسكري وسياسي واقتصادي كرستها المتغيرات الدولية والمقاومة الشعبية الفلسطينية، هل ينبغي التعويل على ما يمكن أن «يتنازل» عنه العدو؟ أم تنبغي ملاحقته بالضربات التي يحققها خيار المقاومة، وتدعمها تغيرات الموازين الدولية؟ 

«المكتسبات» مقابل «البازار» السياسي

على كل حال، مهما كان حجم «المكتسبات» التي يعول عليها المؤيدون لخيار «الهدنة»، فإنهم على ما يبدو غافلون، حتى الآن، عن حقيقتين اثنتين، أولاً: إن كل ما يمكن أن يشكل في بداية العملية «بريقاً لامعاً» لمشروع الهدنة- كالحديث عن «إنهاء الحصار، أو بناء ميناء جديد، أو حتى إعادة فتح المطار»- لا بد أن يخضع لاحقاً إلى قواعد «البازار» السياسي، فالمهم لدى العدو هو انتزاع قبول من الفصائل على مشروع الهدنة، أما ما قدمه من وعود، فتتكفل وسائل المماطلة لاحقاً بعدم تنفيذه، أو تأخيره بالحد الأدنى. فما المعنى في أن يأخذ بناء الميناء عشرون عاماً، على سبيل المثال..؟!

ومن هنا تتبين الحقيقة الثانية: إن مشروع «الهدنة» المطروح على طاولة البحث، سواء «كتابياً» أو «شفهياً»، والذي يُعمل على توريط قوى المقاومة الفلسطينية به، يتفق تماماً مع عملية «المفاوضات» التي تخوضها السلطة الفلسطينية من حيث جوهرهما، حتى ولو كان مشروع الهدنة «أكثر بريقاً».

التكلفة الأعلى والتكلفة الأقل

يرتبط الحديث عن هذه الهدنة، بالوعود المعسولة حول عملية إعادة الإعمار، ضمن الإحداثيات الحالية المطروحة لتلك العملية بعيداً عن المصلحة الوطنية الفلسطينية من هذا الإعمار، حتى لو تم. في العلوم العسكرية، يعتبر رفع تكلفة الحرب على الخصم أحد أهم وسائل ثنيه عن الخيار العسكري، ورفع التكلفة هذه لا يأتي عبر الحد من الأهداف التي يمكن للخصم أن يستهدفها فحسب، بل كذلك عبر دفع الخصم نحو تشييد بنية تحتية ستتحول بدورها إلى عبء إضافي يدخل كعامل ضاغط في الحسابات الاستراتيجية له، فيما لو قرر اللجوء إلى الخيار العسكري لاحقاً.

ومن جهةٍ أخرى، تفتح مرحلة «إعادة الإعمار»، ضمن هذه الإحداثيات، الباب واسعاً أمام حركة «شراء ما يمكن شراءه من ذمم» داخل القطاع، وللإجهاز أكثر على مشروع المقاومة، وستسمح هذه العملية بتقوية أحد طرفي النقيض داخل «حماس»، والمقصود بذلك تقوية التيار «الإخواني» في الحركة، على حساب التيار الملتزم فيها بنهج المقاومة وبتطلعات الشعب الفلسطيني نحو تحرير الأرض.

إلى هذا، يتضح أن خيار المقاومة لم يعد خياراً مبدئياً للشعب الفلسطيني فحسب، بل كذلك فهو الخيار الأقل تكلفة، رغم كل التضحيات التي يتطلبها، مقارنة بخيار «الهدن» وقبله «المفاوضات». وإن المضي في هذا الخيار يستوجب من كل الملتزمين بالثوابت المبدئية للشعب الفلسطيني ضمن الفصائل الفلسطينية تنسيق الجهود فيما بينها على أساس برنامج عمل عماده الأساسي المقاومة المشروعة في وجه المحتل الصهيوني الآخذ بالانتكاس أكثر فأكثر، على وقع التراجع الإمبريالي الغربي على الصعيد الدولي.

 

آخر تعديل على الأحد, 21 حزيران/يونيو 2015 11:10