«السيل الجنوبي» والعلاقات الروسية- البلغارية

«السيل الجنوبي» والعلاقات الروسية- البلغارية

لن تدوم المصادرة الأمريكية لأوروبا مطولاً. هذا ما ترجحه انعكاسات الصراع العالمي بين الأطراف الدولية على الداخل الأوروبي، والتي تظهر للعيان عبر سلوك الدول الأوروبية الأكثر تضرراً من القيود الأمريكية، التي تأخذ تعبيرها المباشر في أداء الاتحاد الأوروبي ومؤسساته السياسية والاقتصادية.

منذ تسعينيات القرن الماضي، نشب صراع اقتصادي وسياسي في أوربا الشرقية، حيث قامت شركة النفط الأمريكية «شيفرون» بالتنقيب عن الغاز الصخري، ومد خطوطه في أوروبا الشرقية، باستثناء بلغاريا، التي رأت في شروط الشركة إجحافاً كبيراً دفعها إلى رفض ذلك، والتوجه نحو روسيا.
توِّج هذا الصراع ببدء خروج بلغاريا من التبعية لأوروبا في مجال الطاقة، عندما قررت التعامل مع الشرق، ذلك بالنظر إلى قضية الغاز الصخري ومصادر الطاقة الأحفورية والبحث عنها في أوروبا الشرقية، بوصفها مكرسَّة لمنع وإجهاض أي تكامل اقتصادي في أوروبا الشرقية، وخنق بلدان البلقان والبلطيق، تمهيداً لحصار روسيا اقتصادياً عبر منع قدوم الغاز والنفط من روسيا إلى شرق أوروبا.


الاعتبار الأول: المصلحة الاقتصادية

وقَّعت بلغاريا اتفاقات اقتصادية عديدة مع روسيا في مجال الطاقة، ومن ضمنها بناء مفاعل «بيلينه» للطاقة النووية، ومد خط غاز «السيل الجنوبي» الذي كان سيمر من بلغاريا إلى الاتحاد الأوروبي، إثر أزمة الغاز الروسية- الأوكرانية. حيث أن بلغاريا مرشحة لتكون همزة الوصل لعبور خطين استراتيجيين للطاقة- أحدهما غاز والآخر نفط- من روسيا إلى أوروبا مروراً بالبحر الأسود وبلغاريا، ثم صربيا واليونان..
ينظر الاتحاد الأوروبي، ومن خلفه الولايات المتحدة، إلى هذا التعاون الاقتصادي بعين التوجس. وبناءً عليه، مارسا ضغوطاً متفاوتة المستويات على بلغاريا للتراجع عن توجهاتها. وما إن بدأ الغرب بنقل تدخله الخارجي إلى المحيط الحيوي لروسيا، وضمناً بلغاريا، حتى شهدت هذه الضغوطات نقلات نوعية تزامنت مع فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، ما أدى في نهاية المطاف إلى تعليق عدد من الاتفاقات الروسية- البلغارية.
رغم ذلك، أعلنت بلغاريا في صيف 2014 عن أملها باستئناف العمل قريباً في مشروع خط أنابيب «السيل الجنوبي» على أراضيها، متجاوزة في ذلك الضغوط الأوروبية السابقة التي ارتبطت بالوضع في أوكرانيا، ومستفيدةً من إرهاصات التحول الأوروبي عنرغبات واشنطن، حيث كان لافتاً إعلان وزير الخارجية البلغاري آنذاك، كريستيان فيغينين، عن أن عزم بلاده على مواصلة العمل بالمشروع الروسي جاء بعلم المفوضية الأوروبية، مؤكداً أن «السيل الجنوبي يكتسب أهمية خاصة بالنسبة لأمن الطاقة في جنوب شرق أوروبا».

 

لروسيا ولأوروبا معاً

يهدف مشروع خط أنابيب «السيل الجنوبي»، المار عبر قاع البحر الأسود نحو جنوب ووسط أوروبا، إلى تنويع طرق تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، حيث تسعى روسيا إلى تقليص مخاطر الترانزيت عبر دولة ثالثة، إذ كانت قد شيدت سابقاً «السيل الشمالي» بطاقة 55 مليار متر مكعب، و«يامال أوروبا» بـ33 مليار متر مكعب، وتعمل الآن على إنجاز «السيل الجنوبي» بطاقة تمريرية قدرها 63 مليار متر مكعب سنوياً. ويمكن القول أن ذلك جاء في سياق الاستنتاجات التي خرجت فيها الحكومة الروسية إثر العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها بقيادة واشنطن.
من جهةٍ أخرى، لا يؤمن هذا المشروع مخرجاً لروسيا من جزء هام من العقوبات الاقتصادية فحسب، بل إنه يفتح الباب عملياً أمام العديد من دول أوروبا، للتخفيف من وطأة الأزمات الاقتصادية التي تعصف ببنيتها، وخصوصاً الدول غير المركزية كبلغاريا وصربيا والمجر وسلوفينيا وغيرها.. حيث كانت الدول الأفقر هي من دفع الثمن الأكبر جراء العقوبات الاقتصادية على روسيا أولاً، ووقوعها بين كماشتي عضويتها في الاتحاد الأوروبي وارتباطها الاقتصادي المباشر بروسيا ثانياً.
من المقرر أن يدخل الخط الأول من أنابيب الغاز حيز العمل أواخر عام 2015، ومن المفترض أن يتكون «السيل الجنوبي» من أربعة خطوط لنقل الغاز، بطولٍ يتجاوز 930 كيلومتر لكل منها. عندها قد يرى العالم «البيت الأوروبي» بمعطياتٍ جديدة نضجت على وقع التغير في موازين القوى العالمية.