هجوم «شارلي إيبدو» وانتعاش السعار الفاشي
استثار العمل الإرهابي الذي تعرَّض له مقر صحيفة «Charlie Hebdo» حالة واسعة من الفوضى السياسية والإعلامية تعدَّت حدود فرنسا. فيما جاءت الأحداث اللاحقة، لتؤكد أن المستجد الفرنسي ليس عابراً.
تقول الرواية الفرنسية الرسمية للحدث إن ثلاثة مسلحين فرنسيين يحملون رشاشاً وقاذفة صواريخ، كانوا قد اقتحموا مقر الصحيفة في باريس نهار يوم الأربعاء 7/1/2015، خلال اجتماعٍ أسبوعي لهيئة تحرير الصحيفة، وقتلوا اثني عشر شخصاً فضلاً عن عشرين جريحاً قبل أن يلوذوا بالفرار. فيما جاء الكلمات التي رددها المهاجمون خلال العملية، بالإضافة إلى التثبت من هوياتهم لاحقاً، لتكشف بأنهم «مواطنون فرنسيون إسلاميون، أصحاب أصول عربية/ جزائرية». هكذا، قتل أربعة من رسامي الكاريكاتور في الصحيفة التي عُرف عنها نشرها لرسومٍ مسيئة دينياً. وفي تداعيات الحدث، كانت مدينة «فيلفرانش سور سون» الفرنسية على موعد في اليوم التالي مع انفجار استهدف مطعماً قريباً من أحد مساجدها، بالتوازي مع اعتداء على مسجد آخر في مدينة «لو مان» بأربع قنابل يدوية تدريبية.
لم تكن التقارير الإخبارية قد انتهت بعد من سرد تفاصيل الحدث، حتى اجتاحت المنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي موجةً من التنديد الواسع للعملية التي جرى تصويرها على أنها اعتداء «خارجي إسلامي» طال فرنسا الآمنة والمستقرة. على الأثر، استقبل ليبراليو منطقتنا تلك الحملة وبدأوا بالنسج الرتيب على أساسها: «تربيتنا المذهبية الحاقدة حتى على المذاهب الأخرى هي السبب. وتربيتنا الطائفية المشككة والمحتقرة للطوائف الأخرى هي السبب»، فيما ذهب آخرون إلى اجترار مقولات «الصراع الحضاري بين الغرب العلماني المتمدن والشرق المتدين المنتج للهمجيات».
تناسى أولئك كل العوامل الداخلية لتنامي ظاهرة التطرف في فرنسا. فجأة صارت السياسة الخارجية الفرنسية التي عملت خلال السنوات الماضية إلى إقحام نفسها في حروب المنطقة وصولاً إلى أفريقيا، عاملاً ثانوياً، كما بات منطق التوريط الأمريكي لفرنسا، وباقي دول الاتحاد الأوروبي، بعيداً عن قائمة الأسباب بحسب هؤلاء، حيث قدمت تلك الدول التسهيلات لنمو التنظيمات «الجهادية» على أراضيها، وفق المشروع الأمريكي الساعي إلى تصدير تلك المجموعات إلى جبهات عدة تعمل على إحراقها حول العالم. فضلاً عن العوامل الاقتصادية الاجتماعية الناتجة عن التبعية إلى المركز الإمبريالي المأزوم بحكم التناقضات داخل المنظومة الرأسمالية ككل، تلك العوامل التي تمهد لسياسات الإفقار والتهميش الاجتماعي المساعدة على تشكُّل التربة الخصبة لنمو ظاهرة التطرف وسائر التشوهات الاجتماعية.
كذلك، تجاهل أولئك التساؤلات التي خرجت للعلن منذ إعلان تفاصيل الحادثة، انطلاقاً من التساؤل حول كيفية تنفيذ الإرهابيين لعمليتهم وسهولة حركتهم بسلاحهم المدجج في بلدٍ من المفترض أنه متقدم أمنياً وتكنولوجياً، مروراً بالتساؤل عن ماهية الإفراج عن منفذي العملية الذين سبق لاثنين منهم أن حوكموا بتهم التعامل مع خلايا إرهابية تنسق بين بعضها في فرنسا والعراق، هل قضى أولئك المتهمون فترة حكمهم في دولة القانون (التي لا تزال تحتفظ بالأسير السياسي جورج إبراهيم عبد الله في سجونها منذ أكثر من 21 عاماً)؟ ثم ألا يدلِّل ارتباط المشتبه بهم بتنظيم «القاعدة» الذي انكشف دوره الوظيفي في حروب أفغانستان والعراق على شيء؟
إلى ذلك، تبرز المخاوف من محاولات التعبئة الإعلامية التي تشنها العديد من وسائل الإعلام الغربية اتجاه شعوبها محذرة من «الخطر الإسلامي القادم إلى أوروبا»، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى موجات متبادلة من ردود الفعل، التي بدأ بعضها بالظهور فعلاً، تارةً على شكل الاعتداء على المساجد وأخرى عن طريق الدفع ببعض منظمات المجتمع المدني التي لعبت سابقاً أدواراً محددة أمريكية وأوروبية ضد روسيا إبان الأزمة الأوكرانية، وذلك لمفاقمة الاحتقان عن طريق افتعال الإساءات للقران من خلال مقاطع فيديو مصورة ومنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي.
تشير المعطيات حتى الآن إلى احتمال موجة واسعة من الاحتقانات تنتعش خلالها الفاشية الجديدة في فرنسا وساحات أخرى في العالم، بما يقوي موقف الحكومة الفرنسية في «مكافحة الإرهاب»، ويستدعي «ردود فعل» محددة في عدة بقاع في العالم.
إن الحكومة الفرنسية التي تباهت عبر الإعلام الفرنسي بأن محققيها عثروا على هوية المهاجمين بعد ساعة من المجزرة وبزمن قياسي دون أن تنجح كل أجهزة استخباراتها باستباق العمل، تؤكد من خلال هذا السيناريو المصغر عن «11 أيلول الأمريكي» أنها غير معنية بمكافحة الإرهاب، بل بتكريسه داخلياً، في محاولة منها لإطالة عمر النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم بواسطة «الإلهاء» و«ضرورات التركيز على العدو بالداخل» أي محاولة تعليق كل الأزمة الأوربية المتركزة فرنسياً بنسب نمو اقتصادي منخفضة على شماعة المهاجرين الذين باتوا بالجملة اليوم عرضة لحملة تشكيك وتضييق مسبقة، بما يسهل حتى مرور أجندات الفاشيين الجدد وبشكل «ديمقراطي وربما انتخابي»، وباستخدامه خارجياً كذريعة لعمل عدواني ما قد تكون ليبيا إحدى وجهاته.