طريقا التغيير والفوضى حول مصر بعد «براءة» المخلوع
استدعى القرار القضائي الذي أصدرته محكمة جنايات شمال القاهرة في 29/11/2014، والقاضي ببراءة الرئيس السابق محمد حسني مبارك من التهم المنسوبة إليه بقتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير، سيلاً من ردود الأفعال الداخلية والخارجية، وفجَّر احتقاناً شعبياً رافضاً للقرار.
في وقتٍ رفضت فيه الأغلبية الشعبية قرار البراءة، انقسمت التيارات السياسية المصرية والعربية في موقفها منه. يرى أول التيارات أن الموقف يسمح له باجترار مقولاته السابقة حول أن السلطة الحالية هي امتداد لنظام مبارك وأن دورها اقتصر في فترة حكمها على إدارة البلاد ريثما تعود عائلة مبارك للحكم. وفيما رآه تيارٌ آخر مؤيد للقرار على أنه بداية لتقديم السلطة المزيد من التنازلات لصالح نفوذ الفلول داخل جهاز الدولة، يسعى «الإخوان المسلمون» إلى كسب الفرصة وإحياء مشروعهم الساقط شعبياً.
الإنجازات المحققة وضغط الضرورة
جاء الحكم الحالي إلى السلطة في ظروفٍ وصلت معها مصر إلى حدود تهديد جهاز دولتها وفقدان دورها الإقليمي، جراء سياسات «الإخوان» التدميرية على كافة الصعد، ليلاقي خلالها الجيش المصري مطالب التغيير التي جسدها الحراك الشعبي في 30 يونيو. منذ ذلك التاريخ، تمثلت أهم إنجازات الحكم الجديد بنقطتين أساسيتين، أولها هو منع مشروع الفوضى والحفاظ على جهاز الدولة في مصر، وهو مشروع التفتيت المطلوب أمريكياً. وثانيها التصدي لـ «الإخوان» كأداة رئيسية في المشروع الأول. وشكَّلت هاتان النقطتان الركيزة الأساسية لحجم التأييد والثقة الشعبية بالرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي.
وعلى طول الخط، كانت ضرورة الانتقال بمصر إلى اتجاهٍ اقتصادي- اجتماعي ووطني يقطع كلياً مع نهج مبارك- المستمر إبان حكم «الإخوان»- تزداد إلحاحاً. فيما كانت عراقيل التغيير ماثلةً بالنفوذ الواسع للفلول والفساد الكبير داخل جهاز الدولة، وضغط العلاقات الإقليمية مع بعض دول الخليج. ما جعل من فتح المعركة مع الفساد الكبير وكسر قوة عطالة النظام السابق، سبيلاً وحيداً للتغيير.
أدى تأخير فتح تلك المعركة، أو على الأقل عدم خوضها بالوتيرة المطلوبة، إلى استمرار هيمنة الفلول داخل جهاز الدولة، وقاد في أحد تجلياته إلى ما قاد إليه مؤخراً من تبرئة مبارك التي قوبلت برفض واستهجان شعبي واسع. غير أن ما يجب الإضاءة عليه، أن الاحتقان الشعبي لا يقتصر على براءة مبارك فحسب، إنما هو في الجوهر تعبير عن الرغبة بكسر نفوذ الفلول وتسريع المعركة ضد الفساد الكبير.
مواقف رسمية
على هامش «البراءة»
دعا الاحتقان الذي خلفه قرار تبرئة مبارك إلى سلسلة من المواقف التي أطلقها القضاء والسلطة، حيث جاء موقف القضاء متمثلاً في البيان الصادر عن مكتب المدعي العام، هشام بركات، يوم الثلاثاء 2/12، إذ كلف بركات النيابة المختصة بالبدء في اتخاذ إجراءات الطعن في حكم براءة الرئيس الأسبق ونجليه علاء وجمال وحبيب العادلي وزير داخليته وآخرين. وقال بركات إن «في حكم البراءة خللاً قانونياً ستبت فيه محكمة النقض من خلال حكم نهائي في القضية، سواء بالبراءة أو الإدانة».
وبعد الإعلان عن البراءة بوقتٍ قصير، أكد الرئيس السيسي أن: «مصر الجديدة التي تمخضت عن ثورتي 25 يناير و30 يونيو ماضية في طريقها، ولا يمكنها العودة إلى الوراء». وفي اجتماعه مع عدد من الصحافيين الشباب، الثلاثاء 2/12، قال السيسي: «لا يوجد شخص منصف وموضوعي يستطيع القول إن نظام مبارك كان جيداً أو يرضى عنه، وكان أولى بالرئيس الأسبق أن يرحل منذ خمسة عشر عاماً ماضية طالما لم يستطع التغلب على التحديات». ومتسائلاً: «لماذا كان يريد أن يورث ابنه؟ البلد كانت «واقعة» لا يوجد فيها ما يورَّث.. وتأخرت ثورة يناير كثيراً». مؤكداً أن «مصر تتراجع منذ أربعين عاماً» في إشارة إلى السادات ومبارك. بحسب ما نقلت قناة «الحياة» المصرية المتَّهمة بأنها «ناطقة باسم العسكر». وكان السيسي قد أعلن خلال افتتاحه عدداً من مشروعات الجيش المصري قد أعلن أن «الشعب الذى قام بثورة في 25 يناير وأكملها ثانياً وتحرك في 30 يونيو، ممكن أن يتحرك مرة ثالثة» مؤكداً أنه لن ينتظر حتى تصل الأمور إلى هذا الحد. هذا ويعتزم السيسي إصدار قانون يجرِّم الإساءة إلى ثورتي 25 يناير و30 يونيو وهو ما قوبل بالرفض من قبل مؤيدي الرئيس المخلوع حسني مبارك.
إنقاذ مصر ممكن
تنفتح الفرصة، سياسياً وقانونياً، للتراجع عن قرار تبرئة مبارك، أو في الحد الأدنى فرض قيود قانونية تمنع مزاولة رموز النظام السابق للعمل السياسي، ما من شأنه أن يخفف من حدة الاحتقان الناجمة عن قرار البراءة. أما في حال بقيت الأمور على حالها فقد تذهب إلى الأسوأ من خلال:
أولاً: فتح احتمالات الفوضى في الداخل المصري، ولاسيما أن مشروعاً أمريكياً لحرق مناطق وساحات جديدة في العالم لا يزال سارياً حتى اليوم. وفي حال التزامن بين ارتفاع العنف والفوضى داخلياً، وامتداد الإرهاب من سيناء والشمال الشرقي إلى مناطق جديدة بمساعدة «الإخوان»، سيدفع جهاز الدولة المصري والمصريون الثمن لعقودٍ لاحقة.
ثانياً: سيساعد إقرار البراءة بشكلٍ نهائي في تعميم الفرز الخاطئ داخل المجتمع المصري على أساس الصراع بين من هم مع القرار ومن ضده، حيث ستنفتح الفرصة الذهبية أمام «الإخوان المسلمين» لاستغلال الفرصة عبر انضوائهم في صفوف من هم ضد القرار، وبالتالي فتح هامش مناورة سياسية- وإن كان صغيراً ومكشوفاً- للحركة التي سبق أن فقدت أوراقها السياسية في الداخل المصري.
ثالثاً: ارتبطت صورة الحكم الجديد في مصر بالجيش المصري بشكلٍ واضح، واحتمال فشله بإدارة الأمور ولجم مشاريع الفوضى، من شأنه أن ينعكس سلباً على صورة الجيش، وأن يقوض دوره كضامن للوحدة الوطنية، ما ينذر بفقدان المؤسسة القادرة على لعب دورها كقوة «فوق الخلافات الثانوية» لقدرتها تلك.
رابعاً: سعى الحكم المصري الجديد إلى استعادة النفوذ الإقليمي لمصر تدريجياً، ابتداءً من حل المشاكل العالقة مع دول الجوار، مثل السودان وليبيا وأثيوبيا، وصولاً إلى بروز اسم مصر كأحد اللاعبين المساهمين في حل أزمات المنطقة سياسياً، أما في حال بات سيناريو الفوضى والعنف واقعاً راسخاً، فسينعكس ذلك على تدهور الدور الإقليمي لمصر، حيث لن يدفع الثمن الشعب المصري فحسب، بل سيرتد ذلك على شعوب المنطقة أيضاً.
اليوم، يفرد الوضع المصري طريقين ظاهرين، أحدهما يحمل في طياته مشروع فوضى، مطلوبة أمريكياً وتركياً على الأقل، والثاني يحمل قراراً حاسماً بالوقوف إلى جانب الشعب المصري وفتح معركة كبرى ضد الفساد الكبير وفلول النظام السابق، وبالتالي النهوض بمصر اقتصادياً- اجتماعياً ووطنياً.