التنسيق النقابية واحتمالات التفجير اللبناني
تسوِّف السلطة السياسية المطالب المحقة للشعب اللبناني. إثر ذلك، تعاند هيئة التنسيق النقابية وتواصل إضراباتها واعتصاماتها الآخذة بالتصاعد في كل الأراضي اللبنانية. تكتشف السلطة ثغرات تسويف جديدة. والنتيجة: لا يستطيع نظام التحاصص الطائفي في لبنان تقديم أية «تنازلات» مطلبية أخرى، في ظل احتمالات جدية لتفجير لبنان بالكامل.
عندما نقول بأن النظام اللبناني بات عاجزاً عن إعطاء أبسط الحقوق الطبيعية للعمال والموظفين، فليس القصد وراء ذلك تبرئته، بل على العكس تماماً، إن المقصود هو حالة الشلل التام التي أصابت البنية التي أرساها التحاصص المعلن منذ اتفاق الطائف إلى اليوم.
ماذا يعني إجحاف الهيئة.. وماذا يعني العكس؟
استشرفت هيئة التنسيق النقابية أزمة الأحزاب اللبنانية باكراً، خصوصاً فيما يدخل في قدرة هذه الأحزاب على الاستمرار في إسكات قواعدها عن طريق المحسوبيات والتمريرات داخل مؤسسات الدولة. وعليه، استطاعت الهيئة أن تجمع أعداداً كبيرة من النقابيين والعمال وأصحاب المطالب خلفها. على طول الخط، ومنذ بدء حراك الهيئة، اصطدم النقابيون بشكلٍ مباشر مع تعنت أحزابهم بتسويف مطالب الهيئة. حداً بات معه النقابي المنتمي إلى أحد فريقي الانقسام اللبناني، يعيد التفكير بولاءاته مرتين.
ويأتي نجاح الهيئة، وخطورته على نظام التحاصص من الباب التالي: أمام فريقي 14 آذار و8 آذار أحد الخيارين. إما اللجوء إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ولا طريق إلى ذلك من دون المرور على رفع ضرائب الأملاك البحرية في الحد الأدنى، وبالحد الأقصى تأميمها. هذا الخيار يضطر قوى الطائف، وباختصار: التخلي عن بنيتها الطبقية، وقبول أمراء الحرب بخسارات ضخمة في الأرباح، وهو ما يبدو على كل الأحوال بعيد المنال.
أما الخيار الثاني، فهو استمرار أقطاب 8 و14 آذار بتسويف مطالب الهيئة، وبإقرار السلسلة كاملة حسب أوراق الهيئة. هذا السيناريو يعني عملياً انتفاء قوة وسطوة هذين القطبين على النقابات اللبنانية واللجان في كافة المهن، بالإضافة إلى الموظفين من مدنيين وعسكريين ومتقاعدين. لن يقبل هؤلاء، على سبيل المثال، بمعاشاتٍ لم تصحح منذ التسعينيات! أمام هذه الحالة، تطلق هيئة التنسيق النقابية درساً جديداً في ماهية العمل النقابي، وأهميته وقدرته على الإمساك برقاب سلطات النهب.
الميول التوافقية.. وضرورات اللحظة
أزمة لبنان التاريخية أن جوهر المنطق السابق متوافق عليه من كلا الفريقين. حيث لا يريا ضيراً في تطيير ملف السلسلة وتأخير انتخاب رئيس الجمهورية وتعطيل كل الاستحقاقات وتأجيلها، إن لم يكن إنجازها متوافقاً مع منطق ميزان الربح والخسارة الضيق لدى كل طرف.
الآن الوضع مختلف جذرياً. حيث باتت ساحة الحرب واحدة من العراق إلى لبنان ومن الأردن إلى تركيا، وأبعد من ذلك.. وفي هذا الوضع، تذهب كل الرهانات على إمكانية الاستمرار بنفس المنطق لبنانياً هباءً منثوراً، ولا سيما مع انفلاش الساحة اللبنانية أمام احتمال التفجير الأمني، والذي لم تكن عرسال أولى إرهاصاته.
اليوم، ومع وقوف لبنان على شفير الهاوية رضخت القوى السياسية إلى تفويض الجيش لمواجهة القوى التكفيرية التي ارتبط تصاعد نشاطها بتعنت قوى 14 آذار وإصرارهم على دعم القوى التكفيرية مناكفة لحزب الله ودخوله الساحة السورية إلى جانب النظام، ضاربين بعرض الحائط خطر هذه القوى على الساحة اللبنانية. يعد هذا التوافق انتصاراً سياسياً لقوى 8 آذار وحلفائه الإقليميين، رغم أن البعض يرى فيه تقدماً سعودياً متمثلاً باحتمال عودة سعد الحريري رئيساً للحكومة. إلا أنه يمثل توافقاً إقليمياً ودولياً للحاق بلبنان قبل التفجير وهو ما يعكس تراجعاً أمريكياً وبالتالي سعودياً في هذه الجزئية كونهما رعاة التفجيرات الفاشية الرئيسيين، وبذات الوقت تقدماً إيرانياً في تخفيض مستوى الحريق في الساحة اللبنانية، وهو ما قد يؤدي إلى توافق سياسي جديد على منصبي الحكومة والرئاسة في لبنان.
أمام فداحة كل ما سبق، يمكن القول إن سياسي لبنان بكلِّ ارتباطاتهم مع الخارج ومصالحهم الطبقية في الداخل، وعلى الرغم من اختلافهم شكلياً، بات استمرارهم خطراً جدياً يهدد لبنان وشعبه كاملاً بإمكان تسرب مشروع الفوضى إلى داخله أكثر وأكثر. وإن توافقوا في هذه اللحظة على مواجهة الخطر الفاشي فإن بقاء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وعدم معالجتها سيشكل كمون الانفجارات اللّاحقة.