درس عرسال.. واستعصاء أمراء الحرب
اشتعلت البلدة اللبنانية المهمَّشة، بعد أن استفاقت الخلايا الإرهابية النائمة مسنودةً بتسلل بعض المجموعات القادمة من الحدود السورية، لتحوِّل البلدة إلى ساحة مفتوحة على حربٍ لم ينطفئ فتيلها بعد.
مع كل انعكاسٍ أمني أو سياسي لأزمة المنطقة على لبنان، يثبت السياسيون اللبنانيون على اختلاف مشاربهم الحزبية، قصورهم عن فهم الرسمة والسياق العام للأحداث في المنطقة، ويستغرقون في بحثٍ شكلي عن المسببات الداخلية، ليخوض أقطاب الانقسام العمودي حرباً إعلامية فيما بينهم، يتخللها ما يتخللها من تراشقٍ للمسؤوليات.
من أحداث المنطقة إلى لبنان
مع بداية أزمة عرسال، ذهبت العديد من القوى السياسية اللبنانية إلى تبني الطرح القائل بأن دخول مسلحي «داعش» و«جبهة النصرة» إلى البلدة الحدودية، لم يكن سوى انعكاس لمستجدات المشهد الميداني في سورية. وكأن «مجريات الميدان السوري» قادت بشكلٍ عفوي واعتباطي إلى دخول المسلحين (بشكلٍ منظم، وبأعدادٍ كبيرة) إلى عرسال.
في الواقع، لا يمكن لعاقلٍ أن يفهم الوضع اللبناني ويخرج باستنتاجاتٍ سليمة من دون النظر إلى طبيعة أحداث المنطقة ومستجداتها في الإطار السياسي والدولي العام. وبالإسقاط على اللحظة الراهنة، فإن استعصاءً دولياً قد أخذ يتصاعد منذ اتباع الولايات المتحدة لتكتيك توسيع خارطة الحرائق في العالم، وتالياً التعامل مع منطقتنا كساحة واحدة، مع ما يتخلل ذلك من ضرورة أمريكية بتوسيع إطار عمل الفاشية التي ترعاها، عبر اختراق الحدود وتكبير رقعة وأمد الصراعات في المنطقة، بما «يفتح» المجال أمام الإمبريالية الأمريكية لاكتساب أكبر قدر من الأوراق الكافية لإبطاء تراجعها، والتخفيف من مفاعيله ما أمكن.
من هنا بالذات، يمكن فهم طبيعة وخلفيات الاختراق الذي جرى مؤخراً على الصعيد اللبناني والعراقي، والأوكراني في وقتٍ سابق، عبر الدخول من الثغرات المتاحة بطبيعة الأحوال لتمرير هذا المشروع.
لماذا عرسال؟
من ينظر إلى الحدود الفاصلة بين الجبهات المشتعلة في سورية ومناطق البقاع الشمالي يرى عشرات القرى اللبنانية التي يسهل وصول المسلحين إليها بالمعنى الميداني، ولكن اختيار عرسال، وهي واحدة من أكثر البلدات تعرضاً للتهميش الطبقي والخدمي، يشكِّل البرهان القاطع على أن بؤر التهميش التي يخلقها نظام التحاصص الطائفي في لبنان هي المؤهل الأول لاستقطاب مشاريع الإحراق الخارجية.
وبالنظر إلى واقع المدينة وتاريخها، وهي التي خاض أبناؤها صراعاً متواصلاً ضد جيش العدو الصهيوني قبل التحرير، تحت راية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية والحزب الشيوعي اللبناني، تنتفي جميع الأقاويل والادعاءات السياسية التي تحاول إخفاء جوهر القضية، ابتداءً من «الإضاءة» على طابع طائفي ما للبلدة، وصولاً إلى اتهام سكانها بتشكيل بيئة حاضنة للإرهاب!
متطلبات المرحلة سياسياً ووطنياً
إن رغبة حقيقية في نزع فتيل الأحداث، ومنع اتساع رقعتها وانتقالها إلى أطوارٍ أعقد، يتطلب من القوى السياسية اللبنانية عموماً، ومن قوى الطائف الساعية لتأمين مواقعها خصوصاً، إعادة قراءة أحداث المنطقة، وتبني الحلول السياسية الكفيلة بتحصين الجبهات الداخلية وإنجاح الشق العسكري في محاربة الفاشية الجديدة. وذلك مروراً باستخلاص العبر من دروس الغير وفشل المتعنتين بوهم إمكان النصر عبر الاقتصار على الحلول العسكرية فقط.
وعلى الصعيد الداخلي، تبرز ضرورة تحصين الساحة اللبنانية عبر التسريع بإنجاز الاستحقاقات المؤجلة بفعل التعطيل (سلاح صيغة التحاصص الطائفي)، ولا سيما إقرار ملف سلسلة الرتب والرواتب، مما يمنع انفجاراً جديداً وتهديداً حقيقياً للاستقرار النسبي في المجتمع اللبناني.
إن الميل الخاص نحو تراجع أزمة عرسال، وظهور بوادر انكفائها مؤقتاً، لا يمنع تكرارها بشكلٍ أكثر تفاقماً في المستقبل القريب، في حال لم ترتقِ القوى السياسية اللبنانية إلى مستوى الحدث وتداعياته في الداخل اللبناني.