الهبّة الشعبية والسلاح... متلازمتان في الكفاح
لم تكن الأسابيع الأربعة الفائتة، وما ستحمله الأيام والأسابيع القادمة، خارج السياق العام للمواجهة المستمرة على مدى أكثر من قرن، بين الشعب العربي الفلسطيني وموجات الغزاة المستعمرين لأرض فلسطين التاريخية. أحدثت جريمة اختطاف وحرق الفتى الفلسطيني، محمد أبو خضير، بسكب البنزين بفمه وعلى جسده وحرقه حياً حتى الموت، الشرارة التي أشعلت النار تحت أقدام الغزاة على امتداد أرض الوطن المحتل كله.
لقد أضافت الجريمة الأخيرة رقماً جديداً في سجل الإرهاب اليهودي الصهيوني على مدى السنوات التي رافقت، ومازالت، استعمار واحتلال الوطن. وقد أضاف العدوان الوحشي، ومازال حتى كتابة هذه السطور، على قطاع غزة صفحة سوداء جديدة في كتاب المذابح اليهودية / الصهيونية، تكشف عن حرق المدنيين العزل في بيوتهم بصواريخ وقنابل متفجرة، لا تبقي سوى الدمار والأجساد المحترقة وأشلاء الجثث، وهذا مانستنتجه من حديث أحد كبار ضباط العدو للإذاعة العامة: «سلاح الجو قصف قطاع غزة خلال اليومين الماضيين بنحو 400 طن من القنابل والصواريخ، ونحن مستمرون».
الهبة الشعبية ودلالاتها
شكلت الجريمة الوحشية صاعق التفجير الذي حرك بركان الغضب في شعفاط أولاً. فالظروف الموضوعية وممارسات الاحتلال الوحشية من اعتداءات على المواطنين يقوم بها جنود وأجهزة قمع أمنية وقطعان المستعمرين، مع قطع الأشجار وهدم البيوت وطرد أصحابها ، وسقوط وانكشاف الكذبة الكبرى عن «المفاوضات» وتعرية السياسة التي راهنت على وهم «السلام الاقتصادي» وبؤس التبعية الكاملة لدورة النهب الإمبريالية، وتفاقم مؤشرات البطالة المترافقة مع ارتفاع بالأسعار، وتحويل المواطنين إلى رهائن لدى البنوك، كل ذلك دفع بالمئات من جيل الشباب ليقتحم الميادين ويواجه بالسواعد والحجارة وقنابل المولوتوف، هراوات ورصاص عناصر الشرطة وقوات القمع الصهيونية.
وخلال ساعات، بدأت أحياء مدينة القدس الشرقية المحتلة وقرى المدينة، تشهد مواجهات عنيفة مع المستعمرين المحتلين، لتلحق بها بعض مدن الضفة ومخيماتها (نابلس وقلقيلة وبيت لحم وجنين و... إلخ) بمظاهرات تفاوتت بعدد المشاركين بها، وبحجم إتساعها نتيجة عدة عوامل من أبرزها: ترهل وبيروقراطية وأزمات، معظم القوى السياسية وارتباط العديد منها «القمة والقاعدة» بالتمويل المالي الذي ترسله دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية الدائرة في فللكها. التخريب السياسي والمجتمعي الذي أحدثته المنظمات غير الحكومية (تشكيلات الأنجزة). لكن كل ذلك لم يمنع امتداد التظاهرات لتشمل مدن ومخيمات قطاع غزة، أيضاً، التي كان مواطنوها يستشعرون اقتراب ساعة العدوان عليهم.
وقد أضافت التظاهرات الشعبية الواسعة في المدن والبلدات المحتلة منذ عام 1948، وللمثال وليس الحصر (حيفا ويافا والناصرة وأم الفحم وطمرة وسخنين وبئر السبع)، بعداً جديداً لوحدة الشعب الفلسطيني في معركته التحررية، وإسقاطاً لحدود عام 1967 وجدار الفصل العنصري والضم الجغرافي الاحتلالي، وإحياءً للذاكرة الوطنية بما قدمه شعبنا في الداخل المحتل عام 1948 من شهداء وجرحى هبة تشرين أول/ أكتوبر عام 2000 مع انتفاضة الأقصى .
حديث الإنتفاضة الدائم
لم يكن مفاجئاً، تأكيد العشرات ممن قادوا، على أرض ميدان الصراع، المواجهات مع العدو، نقدهم لمسيرة السنوات السابقة لدور السلطة والفصائل في إدارة الصراع مع العدو. وهذا ما أوضحته اللقاءات التي تحدث بها العديد من المتظاهرين مع وسائل إعلامية مختلفة وعلى الهواء مباشرة. لقد أصر الجميع على ديمومة واستمرارالنضال، ورفض المفاوضات، وإدانة «دور وسلوك وسياسة» سلطة المقاطعة التي «تتابع الهجمة الوحشية التي يقوم بها العدو على الشعب الفلسطيني ، وكأنها تراقب ما يجري في جزر الفوكلاند أو المالديف» فهي تعلن تضامنها مع «شعبها!» لكنها تقمع أي حراك شعبي يطالب بالدفاع عن الأهل في غزة، كما حصل في الخليل ورام الله المحتلتين. قادة المظاهرات شددوا في أحاديثهم على ضرورة العمل على بناء أطر وأشكال تنظيمية جديدة قادرة على الحفاظ على الثوابت الوطنية والقومية في تحرير الوطن، لأن الأشكال والقوى والأطر القائمة، أصبحت غير قادرة على الفعل والتأثير فهي في غالبيتها قد «تكلست وتيبست واضمحلت»، وأصبح معظمها عقبة بوجه إدامة الاشتباك مع المحتل، بل أن «سلطة المقاطعة» جعلت من التنسيق الأمني مع العدو «الثابت والمقدس»، وهو مايتناقض بالمطلق مع مواقف المتظاهرين، لأن «ثابتهم ومقدسهم» هو الكفاح من أجل تحريرالوطن والحفاظ على كرامة المواطن.
منذ سنوات والحديث عن ضرورة «الانتفاضة» يفرض نفسه على النشاط السياسي في كل تحرك احتجاجي، يتراوح ما بين السلمية والعنف. ويساعد على حرارة الحديث توفر الشروط الموضوعية. لكن الكابح لعدم الانتقال من الهبات الجماهيرية التي تشهدها مدن وقرى الوطن باستمرار، من حالة الحراك إلى الانتفاضة، كان سببه المباشر، غياب البرنامج والإطار التنظيمي والقيادة الموحدة. لكن اللافت في الحراك الراهن، أن مبادرات جماهيرية، قاعدية، بدأت تشكيل إطاراتها من أجل توفير الحماية الذاتية وإدارة شؤون حياتها.
صمود غزة وحرب استنزاف الكيان
أمام كل عملية فدائية يتم إنجازها في مناطق الوطن المحتل، تقوم حكومة العدو بمحاولة «الثأر» من القطاع الصامد بشعبه وقواه المقاتلة، من أجل تنفيس ردود فعل التجمع الاستعماري/الاستيطاني تجاه تقصير الجيش وأجهزة الاستخبارات. لكن «دروس العقاب والتأديب» التي يحاول فرضها المستعمر الغازي على القطاع الصامد، ترتد على الائتلاف السياسي الحاكم، وعلى درجة التماسك «الهش» داخل الكتلة الاستيطانية المستعمرة. فبعد أقل من 36 ساعة- في العدوان الأخير عام 2012، بعد أربعة أيام تقريباً- من بدء العدوان قامت القوى المقاتلة بالرد الصاروخي العنيف على مستعمرات غلاف القطاع، أولاً. فارضة شروطها: كل تصعيد يتم مجابهته بتوسيع دائرة النار على تجمعات ومدن المستعمرين. في اليوم الثاني ترجمت المقاومة تهديدها. فضربت عشرات الرشقات «الصليات» الصاروخية، القدس ومنطقتها، وتل أبيب وجوارها، وحيفا والخضيرة وديمونا، مع عمليات كوماندوس بحرية استهدفت قاعدة عسكرية قرب عسقلان.
في اليوم الثالث للعدوان، مازالت المذبحة مستمرة ومتصاعدة. أكثر من ثمانين شهيداً ، غالبيتهم من المدنيين، وأكثر من ستمائة جريح، ومايزيد على ستين منزلاً تم تدميرها. ويترافق كل ذلك بحشد من الدبابات والمدافع وعشرات الآلاف من العسكريين، في استعراض للقوة، تشير كل التحليلات لعدم قدرة الحكومة التي اختلف إئتلافها على محدودية الضربة العسكرية أم على اقتحام بري واسع للقطاع بعد إنهاكه بقصف الطائرات والمدفعية. خبراء المال والاقتصاد في الكيان يشيرون إلى فداحة الخسارة مع كل خطوة باتجاه الاستنفار العسكري ومباشرة العدوان. إن تكلفة خدمة كل جندي في أوقات الاستنفار والخدمة الاحتياطية تبلغ يومياً170 دولاراً. ولهذا فإن ماتطلبه الخدمة الاحتياطية لأربعين ألف جندي تبلغ 7 ملايين دولار في كل يوم. ومن هنا، كان جيش العدو في فترة سابقة، قد أوقف استدعاء الجنود والضباط للخدمة الاحتياطية بسبب عدم توفر أموال لتمويل دخولهم الخدمة الفعلية.
إن التذكير بالإنقاق المالي في الحروب السابقة يضعنا أمام حالة القلق والرعب التي يعيشها التجمع السكاني الاستعماري بما تفرضه عملية استنزاف ميزانية الكيان. في الحرب العدوانية عام 2009، التي حملت اسم «الرصاص المسكوب» وصلت التكلفة اليومية إلى 50 مليون دولار. ويضاف لكل ذلك، حجم الخسائر في البنية التحتية والأملاك العامة والخاصة للمدن والمواقع التي تضربها صواريخ المقاومة.
استخلاصات
أعادت المشاركة اللافتة- لم تكن كذلك أثناء عدوان 2012- في العمليات القتالية للقصف الصاروخي وعمليات الكوماندوس لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، العودة لصدارة المشهد النضالي، مما يشير إلى منعطف جديد في الدور السياسي القادم الذي تأمله وتخطط له الحركة في تظهير مواقفها. خاصة، مع اختفاء دور «حكومة الوفاق الوطني» وعدم تحمل مسؤولياتها- كما سلطة المقاطعة- تجاه شعبها في غزة والضفة، باستثناء القمع الوحشي للمتظاهرين الزاحفين نحو مستعمرة «بيت إيل» قرب رام الله المحتلة. كما تسعى الحركة لإعادة التأكيد على تمسكها بنهج المقاومة المسلحة، في محاولة واضحة على خصوصية تواجدها فوق أرضها .
في بحر الدماء الفلسطينية، غابت وتلاشت، أدوار العديد من المؤسسات (سلطة المقاطعة وجامعة الدول العربية والقمة العربية وملحقاتها). أما الحركة السياسية الشعبية العربية فهي غارقة في مشكلاتها وأزماتها ومآسيها التي فرضتها «الفوضى التدميرية» المتدحرجة.