عملية الخليل.. الدلالة والارتدادات
أسبوعان، مرا على عملية أسر «اختطاف» ثلاثة «جنود»، كما وصفهم موشي يعالون، وزير حرب العدو، أو «فتيان» كما أراد لهم أن يكونوا، رئيس سلطة المقاطعة. خمسة عشر يوماً، ومازالت الأراضي المنكوبة باحتلال عام 1967 تعيش اجتياحاً وحشياً تنفذه قوات الغزو العسكرية، ومختلف أجهزة الشرطة والمخابرات، حاولت من خلاله أن تدخل للكهوف والآبار الجافة، وأن تنبش في كل بقعة من الأرض، عسى أن تعثر على المفقودين.
سبعة شهداء وعشرات الجرحى، ومايقارب الخمسمائة مواطن تعرضوا للاعتقال، بالإضافة لعشرات الأسرى المحررين، وفي مقدمتهم سامر العيساوي. وأكثر من ألفين وخمسمائة منزل ومركز ومؤسسة (جامعات وجمعيات أهلية ومشافي) تعرضت للتفتيش والعبث بمحتوياتها وتحطيم البعض منها. كما تم نهب وسرقة بعض مؤسسات الصرافة.
تسعة ألوية، مدعومة بقوة جوية ووحدات ضخمة من الكوماندوز والاستخبارات، شاركت في العملية، كما صرح الناطق باسم جيش العدو المقدم «بيتر ليرنر». حالة الهستيريا التي حكمت ردة الفعل الصهيونية تجاه الشعب الفلسطيني، دفعت بالعديد من المراقبين لتسميتها بعملية «السور الواقي 2»، في حلقة جديدة لما فعلته قوات المستعمر بالضفة المحتلة في عملية «السور الواقي» عام 2002.
فشل الرعب والترويع
«جز العشب»، هو الإسم الذي اختارته القيادة العسكرية للعملية، بما يحمله من دلالات على قدرة الآلة العسكرية/الأمنية على استهداف البنى التنظيمية والاجتماعية للشعب، من خلال إطلاق الغرائز التي تعمل على نشر الرعب المتدحرج في كل مكان، من أجل العثور على الجنود المفقودين وخاطفيهم.
لكن حصاد الأيام الخمسة عشر الفائتة كان صفراً كبيراً، وهو ما دفع بطاقم الحكومة المصغرة ليصدر قراراً بـ «تقليص النشاطات العسكرية، وتعزيز دور العمل الاستخباري»! مالم تعلنه قيادات العدو في تبريرها للقرار، هو حجم الإنهاك الذي أصاب الجنود والضباط في عمليات البحث، والإرهاق في ميزانيات الأجهزة بما يفرضه واقع الاستنفار بالدرجة القصوى، والخوف من وصول درجة الإحتقان والغضب في صفوف الشعب الفلسطيني للانفجار الشامل: الإنتفاضة. هذا الغضب الذي بدأت تشهده منذ الأيام الأولى للعملية، العديد من القرى والمدن ومراكز التجمعات. لكن السؤال الذي يتبادر للذهن: إذا كان عمل الجيش وكل الأجهزة الأمنية بالأيام السابقة لم يحقق شيئاً، فهل أجهزة الاستخبارات قادرة على العثور على «الأشباح»؟
بعض المحللين، والكتاب، ومراكز البحث، حاولوا طرح أكثر من فرضية لتفسير «عملية الخليل»، خاصة احتمال قيام حكومة العدو بـ«فبركة» المسرحية /العملية من أجل الوصول لعدة نتائج سياسية محلية وإقليمية تسعى قيادة الكيان لتحقيقها. علماً، بأن هذه الحكومة ليست عاجزة عن قطف ثمار حركتها السياسية على أكثر من صعيد، في ظل سياسة الإذعان التي تنتهجها السلطة، وتفاعلات الوضع العربي، والدعم الإمبريالي. كما أن لجوء القيادة السياسية والعسكرية للكيان لمثل تلك المسرحية، سينعكس سلباً على الوضع الداخلي بالنظر لتداعياته السلبية على التجمع الإستعماري/الإستيطاني وقواه الحزبية. لكن التطورات المتسارعة للحدث وانعكاساته على التجمع الاستعماري/الاستيطاني، كانت تشير بعد انقضاء اليوم الأول على تنفيذ العملية، إلى أن مجموعة من المناضلين قامت بتنفيذ المهمة النوعية، بعد رصد ومتابعة ومعرفة تفصيلية بطبوغرافيا المكان وبتجهيز دعم لوجستي، مما يشير إلى وجود خبرة هائلة بكل جوانب العملية التي كانت تهدف تأمين عملية تبادل لآلاف الأسرى في معتقلات وسجون العدو.
كَشَف أَسْرالمستعمرين الغزاة في منطقة ج بمحافظة الخليل والتي تخضع بالكامل لسيطرة العدو، حسب ما جاء في تقسيمات الضفة الغربية المحتلة في إعلان اتفاق المبادىء «اتفاق أوسلو» الكارثي، عن خلل أمني واستخباراتي في المؤسسة الحاكمة والمسيطرة، وهو ما دفع بالحكومة الصهيونية للتصرف بشكل وحشي ودموي تجاه أصحاب الأرض، في محاولة لاسترضاء التجمع الاستعماري، وللتعويض، بالتصرفات العدوانية، عن العجز والتقصير في توفير الحماية، وفي الاستشعار لمستويات المراقبة والترصد التي يعمل عليها السكان العرب منذ سنوات، وهم يتابعون حركة مجرمي المستعمرات الذين ينشرون الرعب والقتل فوق أراضيهم.
كيّ الوعي مجدداً
تعاملت قوى الائتلاف الحكومي مع العملية وآثارها وعلاقتها بـ«الشعب الفلسطيني وسلطة المقاطعة واتفاق المصالحة» بمستويات تعكس درجة الارتباط بالمشروع الصهيوني وآفاقه. فمابين نتنياهو وبينيت وليبيد وليفني، تراوحت ردود الفعل مابين «الناعمة والعنيفة». هيجان «بينيت وليبرمان ونتنياهو»، كان منسجماً مع سياسة الصخب و«التكسير» الدائمة التي يلجأون إليها، بينما «الاعتدال اللفظي» الذي ذهب إليه كل من «ليبيد وليفني وبيلين» لم يكن أقل خطورة بنتائجه عن سياسة الآخرين.
فقد اتفق الجميع على أن تشكل عملية الرعب المستمرة، حلقة جديدة في سلسلة الممارسات الهادفة ضرب البنى التحتية للمقاومة وتحطيم بيئتها الحاضنة الثقافية والمجتمعية. باختصار، إنها محاولة جديدة لتنفيذ خطة «كي الوعي» الجمعي للشعب الفلسطيني. وهذا مايمكن قراءته بين كلمات المقالة التي كتبها في صحيفة «هآرتس» الصهيوني «عاموس هرئيل» أحد كبار الكتاب والمحللين في الكيان: «العملية الجارية لا علاقة لها بجهود العثور على من وصفهم بالجنود الثلاثة». توهمت تلك القيادات بأن سياسة العقاب الجماعي يمكن لها أن تحقق «انهياراً» أو «تفتح فماً» يؤدي لطرف الخيط. لكن الخبرة المتراكمة من جولات الصراع والمواجهة والقتال مع المشروع الاستعماري منذ قرن ونيف، وفرت للشعب وقواه الحية خبرة وصموداً وصلابة وقدرة على التحمل، فاجأت وأذهلت المستعمرين.
سقوط مدوٍ
قيادة سلطة المقاطعة، وعبر رئيسها، كانت الموقف النشاز والفج والمستهتر، بقيم ومشاعر شعبنا وأمتنا. ففي اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في جدة ( 18 حزيران)، وبحضور مندوبين لسبع وخمسين دولة، نطق محمود عباس، كفراً، بعد ستة أيام على اختفاء الجنود. بالفم الملآن قال: «أجهزة أمن السلطة تبحث عن المخطوفين «الاسرائيليين» الثلاثة، ومن يقف خلف الإختطاف، فعل ذلك كي يدمرنا. من فعل ذلك، سيكون لنا حديث آخر معه»، مضيفاً: «الفتيان الثلاثة هم بشر مثلنا ويجب إعادتهم إلى عائلاتهم... التنسيق الأمني مع «اسرائيل» هو مصلحة وطنية فلسطينية». المشاعر الإنسانية تجاه الجنود «الفتيان» لم تأخذ في حسبانها 196 فتى فلسطينياً و 18عشرة مناضلة داخل زنازين التعذيب ومعازل الموت البطيء. مشاعر التضامن مع الغزاة، قابلتها عبارات التهديد والوعيد التي تنتظر الذين قاموا بالعملية، التي أعادت لشعبنا وأبناء أمتنا مشاعر الفخر والاعتزاز بأبناء الشعب الذين مرغوا هيبة المستعمر بالوحل.
أما «عشق» التنسيق الأمني مع المحتل، فقد أسبغ عليه رئيس سلطة الحكم الذاتي قبل شهر صفات «ثابت ومقدس» في حديثه يوم 29/5. لم يبق مواطن يحمل في ذاته الكرامة وحب الوطن، إلاّ وتأكد بما تعنيه كلمات «التنسيق الأمني» من تنفيذ لخطط العدو في ملاحقة المناضلين واعتقالهم، بل، وفي قيام جيش العدو وأجهزة استخباراته بالتحقيق والاعتقال لعناصر أجهزة الولاء الأمني «التنسيق»، كما حصل في مدينة نابلس. وبالتالي، فهذا التنسيق هو مصلحة صهيونية بامتياز. ويمثل موقفاً معادياً لطموحات الشعب الفلسطيني، كما صرحت بذلك «حنين الزعبي» عضو الكنيست الصهيوني: «التنسيق الأمني خيانة للشعب الفلسطيني».
لقد عبّر الشعب الفلسطيني عن رأيه في مواقف وسياسات السلطة بأكثر من مكان، في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الميادين حيث انطلقت عدة مظاهرات اجتاحت شوارع وساحات العديد من المدن والبلدات، خاصة، ما شهدته رام الله المحتلة من احتجاجات وصدامات مع عناصر الولاء الأمني ومحاولة اقتحام أحد مقراتها بالمدينة، وهو مارأى فيها قادة السلطة نذر انتفاضة جديدة، لاتستهدف الاحتلال فقط، بل، كل دعاة التنسيق الأمني والتبعية «السلام» الاقتصادي، فبادروا للحديث عن «ممارسات غير مبررة» يقوم فيها جيش الاحتلال، وعن التلويح بالذهاب للمنظمات الدولية، للضغط على حكومة العدو لوقف ممارساتها.
استخلاص
إن الحالة الشعبية الثورية المتنامية، التي احتضنت هذا الفعل المقاوم، ووفرت له البيئة الملائمة، تشير إلى تنامي ثقافة مقاومة من طراز جديد، ووجود أشكال وأطر من التنظيم الجنيني «أنوية» ستؤسس لمرحلة جديدة تتجاوز حالات التكلس والبيروقراطية والإعاقة التي تعلن دخول العديد من مسميات حالة الموت السريري في غرف العناية المشددة.
إن شعباً يواجه كلاب ورصاص الغزاة بالصدور العارية والقبضات الفولاذية، ويستقبل صواريخ المدفعية والطائرات بالمزيد من المقاومة والتشبث بأرض الوطن، لايمكن لأحد أن ينطق باسمه، مزوراً قناعاته، أو يشكل الوفود، باسمه أيضاً، لزيارة عائلات الجنود، داخل المستعمرات المبنية على أرضنا، لمواساتهم. إن الوطن يا تجار السياسة والاقتصاد ليس سلعة للمساومة أو للبيع.