التطبيع ومطالب الناس.. ولعنة التحاصص اللبناني
خلال الأسابيع الماضية، تصدَّر الساحة اللبنانية حدثان بارزان، تجسَّد أولهما في «الزيارة الكنسية» التي قام بها البطريرك بشارة الراعي إلى فلسطين المحتلة، وما حملته الزيارة من تطبيعٍ معلن مع العدو، فيما تمثَّل الثاني بحراك «هيئة التنسيق النقابية»، الذي لم ينتهِ بعد.
في تفاصيل الحدثين، انعكست أزمة النظام السياسي اللبناني، كنظام تحاصص طائفي رسَّخه «اتفاق الطائف» منذ ثمانينيات القرن الماضي، مساهماً في خلق سقف «توافقي» مفروض على كل القوى السياسية الفاعلة في لبنان.
زيارة لتبرئة عملاء «جيش لبنان الجنوبي»
لم تكن زيارة الراعي للأراضي الفلسطينية المحتلة كنسيةً دينيةً، وهي الحجة التي ما انفك «مفكرون وصحافيون» يكررونها على مسامع اللبنانيين لتبرير التطبيع الذي تحمله الزيارة. حيث بدَّد وقوف البطريرك أمام حشدٍ من عملاء «جيش لحد» مبرئاً إياهم، وشاتماً كل من يصفهم بالعملاء، أي محاولة لتبرير ذلك التطبيع.
وعلى أعقاب الزيارة، انقسمت مواقف «الفريقين» اللبنانيين كالعادة. ففيما لم تأت قوى «14 آذار» بجديد عندما دافعت عن موقف البطريرك وزيارته وبررتهما، انتظر الجميع موقفاً حازماً لتحالف «8 آذار» من التطبيع. إلا أنه لم يصدر أي موقفٍ رافضٍ للزيارة على لسان التحالف الذي آثر الصمت المطبق، التزاماً منه بالتوازن داخل تركيبة التحاصص الطائفي، ومنعاً لأي اشتباك سياسي «يعكر صفو» التوافقات داخل تلك التركيبة.
في الواقع، أتى الموقف الصامت لتحالف «8 آذار» ليعيد التأكيد على أن انخراط أحزابه وتياراته في نظام التحاصص، وقبولهم بالرضوخ للسقف الذي فرضه هذا النظام، فرض ازدواجيةً في المعايير والمبادئ التي تدافع عنها مكونات التحالف.
«قلوبنا معها وسيوفنا عليها»؟!
هدَّد الحراك المطلبي الذي تقوده «هيئة التنسيق النقابية» بنية النظام اللبناني، من خلال محاولاتها المتكررة إحداث خرقٍ نسبي في العلاقة بين القواعد الشعبية وتيارات الانقسام العمودي في لبنان، مسلطة الضوء على الشرخ الشاسع بين المطالب المحقة للشعب اللبناني والمصالح الضيقة لأحزاب التحاصص.
لم تصب قوى «14 آذار» بأي حرج من إعلان عرقلتها الدائمة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب، سواءً من خلال السعي إلى ربط القضية بالتوافق حول انتخاب رئيس جديد للبنان، وبالتالي استخدامها كورقة ضغط ضد التسويف الحاصل في عملية الانتخاب، أو من خلال إدخال السلسلة في دوامة البحث عن مصادر لتمويلها، بعيداً عن جيوب كبار البرجوازيات المسيطرة على الأملاك البحرية، والمنتمية إلى كلا الفريقين السياسيين.
من جهته، كثَّف تحالف «8 آذار» من دعمه الإعلامي، وفقط الإعلامي، لحراك «الهيئة». ولم يتدخل عملياً إلا مرتين: في الأولى، ساهم في إصدار تقرير اللجنة النيابية الذي حاول الهروب من فرض تمويل السلسلة من جيوب الأغنياء، ووضع البدائل من خلال فرض ضرائب جديدة على العديد من السلع. وفي الثانية، شارك في إرجاء الجلسة البرلمانية التي كان من المفترض إقرار السلسلة خلالها.
مرة جديدة، تتأكد القاعدة: الأحزاب الراضية بخضوعها لسقف تحاصص لم ينعكس إلا بمزيد من فرض الأعباء على الفقراء وتسويفاً لقضاياهم، لن تستطيع أن تقوم بمهامها الوطنية على كلِّ الصعد، الاقتصادية- الاجتماعية والوطنية. ما يجعلها رهينةً لأزمة حتمية ستصيبها على صعيد القواعد الشعبية، فيما لو استمرت بسلوكها المتجسِّد بتعطيل إقرار مطالب الناس، نزولاً عند الرغبة في الحفاظ على «التركيبة»، تركيبة «الطائف» البالية.