العراق من الدكتاتورية الأحادية إلى فوضى الطائفية
سجلت مفوضية الانتخابات 277 كياناً سياسياً، من بينها عدد محدود من المستقلين، أما الباقي فتمثل أحزاباً وتجمعات طائفية أو اثنية ومناطقية. وإن كان مفهوماً انطلاق نشاط الأحزاب، سوى تلك التي ناضلت وقاتلت ضد نظام دكتاتورية الحزب الواحد، أو تلك التي تشكلت بعد سقوط هذا النظام، نتيجة لعقود من حرمان الشعب حقه في النشاط السياسي.
أسس مختلفة، قد شوه مفهوم الحزب باعتباره الأداة الطبقية للطبقات الاجتماعية، والمعبر عن مصالح هذه الطبقة أو تلك، وتحولت هذ الأحزاب إلى عامل لتفتيتت الوحدة الوطنية لمصلحة الهويات الفرعية.
جاء خوض هذا العدد الكبير من الأحزاب للانتخابات، في إطار ائتلافات أو بشكل منفرد، ليزيد من تعقيد الأمور على المواطن العراقي، الذي لم يعد باستطاعته الاطلاع على برامج وأسماء هذه الأحزاب، فاتجه نحو التصويت للشخصيات المعروفة، والتي تعد على أصابع اليدين، مما أفقد الانتخابات هدفها الأصل، ألا وهو انتخاب مندوبي الشعب مباشرة من المواطنين، فدخل البرلمان أكثر من ثلاثمائة نائب، دون أن يحصل أي منهم على العتبة الانتخابية المطلوبة، أي 21 ألف صوت، وإنما بالأصوات التي حصل عليها رؤوساء القوائم العشر الرئيسية، وبذلك تحول النائب إلى موظف لدى رئيس القائمة.
وإذا كان العراق محكوماً من حزب واحد إقصائي شمولي، فيحكم اليوم من مجموعة أحزاب تتعارض بنيتها وبرامجها وممارساتها تعارضاً تاماً مع المصلحة الوطنية، وتعرض البلاد إلى مخاطر الحرب الأهلية، وهاهي تضرب عرض الحائط بتعهداتها الانتخابية في التحرر من نظام المحاصصة الطائفية الاثنية، وتخوض مفاوضات لإعادة إنتاج النظام المازوم ذاته على أساس محصاصات جديدة، تضمن استمرار حكم الطبقة السياسية الفاسدة ذاتها.
وفي هذا الإطار تصر هذه القوى على موقفها برفض تشريع قانون الأحزاب، بالرغم من مرور عشر سنوات على سقوط النظام السابق، الذي تدعي بأنها كانت ضحيته، القانون القادر على تنظيم الحياة السياسية وتخليص البلاد من فوضى مئات الأحزاب الصورية، ناهيكم عن تحريم تأسيسها على أساس طائفي وعرقي ومناطقي وديني. ويأتي تمسكها بقانون انتخابي غير عادل لقطع الطريق على القوى الوطنية الديمقراطية، من أن تحتل مكانتها في الحياة البرلمانية والمنافسة المتكافئة أمام الشعب. كما أن نتائج الانتخابات قد أظهرت بكل وضوح انعدام فرص القوى الحية في المجتمع من دخول البرلمان، بما يتناسب مع ثقلها الجماهير والسياسي على الأرض.
جاءت نتائج الانتخابات بمعادلات جديدة، وبدأت عمليات المساومة خلف الأبواب المغلقة، إذ انتهت فترة التسقيط السياسي، وبدأت فترة التحالفات بين الإخوة الأعداء، ولاسيما بعد فوز كتلة «دولة القانون». وإذا كانت واشنطن قد سعت في انتخابات 2010 إلى تثبيت دورة ثانية لنوري المالكي، متوافقة بهذا الشأن مع إيران، وآخذة بعين الاعتبار نفوذ الأخيرة في العراق، فإنها في هذه الانتخابات تعي مدى الصعوبة في التوافق بين أطراف العملية السياسية. فالمالكي أصبح نقطة وسط بين واشنطن وطهران، وفي لحظة تاريخية عكست ميزان القوى الدولية والاقليمية.
على الرغم من أن واشنطن سحبت جيشها أواخرالعام 2011، واستبدلت القوة العسكرية المباشرة بالقوة الدبلوماسية، المؤطرة باتفاق «المصالح الاستراتيجي»، الذي نقل الاحتلال العسكري إلى الاحتلال التعاقدي، فهي ما زالت اللاعب الرئيس في العراق، وقد ترغب باستبدال المالكي إن توفِّر له بديل مضمون. وستسعى إلى جسّ النبض بمن تريد، وسوف لا تتأخر في ذلك.
من جهته، حسم المالكي المعركة لمصلحته ضد القوى التي أجمعت كل الأسباب على منعه من الولاية الثالثة. أما السؤال الأهم وطنياً فهو: هل هناك إمكانية لولادة الكتلة الوطنية التاريخية من داخل وخارج العملية السياسية المؤهلة لانجاز مهمة استكمال سيادة العراق، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية؟
صباح الموسوي* :منسق التيار اليساري الوطني العراقي