من الاستبداد إلى المحاصصة ( 22)

من الاستبداد إلى المحاصصة ( 22)

عندما أُعلن قانون الأقاليم في دورة البرلمان التي سبقت هذه الدورة (2005-2008) تم تأجيل تطبيقه إلى 18 شهراً، وظلّ مؤجلاً حتى اليوم، وإن جرت محاولات لتفعيله من الفريق الذي رفضه، بل رفض الدستور بسبب احتوائه على الفيدرالية، وأعني بذلك محافظات صلاح الدين والأنبار وإلى حدود كبيرة الموصل وديالى، وكان كل من طارق الهاشمي والحزب الإسلامي وصالح المطلك وجبهة التوافق بقضها وقضيضها ضد الفيدرالية، أما اليوم فقد توجّهت إلى تأييدها لأسباب تقول أنها تتعلق بهيمنة المالكي على القرار والتحكم بمصائر المحافظات التي تريد أن تتحوّل إلى أقاليم فيدرالية، ولعل ذلك ليس مبرراً كافياً لإعلان الفيدرالية، وهو نقص فادح في التوجه الديمقراطي، وليس في قلب كل فيدرالية هناك مكان للديمقراطية، في حين أن كل نظام ديمقراطي يمكن أن يتحوّل إلى نظام فيدرالي وليس العكس.

أما الدستور فيتضمن 50 مادة من مواده الأساسية لا تزال معلّقة تنتظر أن يصدر بشأنها قانون لكي تصبح نافذة، ولم يصدر هذا القانون على الرغم من انقضاء دورة برلمانية ونصف الدورة، كما أن الدستور لم يعدّل حسبما تم الاتفاق عليه، في انتخابات الدورة الأولى (أي بعد أربعة أشهر على انعقاد الدورة الأولى) ومضت اليوم نحو 7 سنوات على إبرام الدستور ولم يتحرك ولم يتم الحديث عن اللجنة الدستورية المكلفة بإعداد تعديلاته والتي أكدت منذ سنوات أنها غير قادرة على القيام بمهماتها بسبب الاختلافات السياسية بين الفرقاء.

تلكم هي الخلفية التأريخية والصورة الراهنية للمشهد السياسي العراقي المحتقن اليوم، فالكتل الطائفية الإثنية الثلاثة المتصارعة منذ تشكيل حكومة نوري المالكي قد دخلت اليوم في نفق مظلم، فهي لم تعد قادرة موضوعياً على إعادة خارطة المحاصصة، بعدما صعدت خطاب الهوّيات الفرعية على نحو صاروخي، وتصدي المجتمع العراقي له، وفشل هذا المنهج التقسيمي من جهة وقطع الطريق على أية محاولة مزيفة ترتدي القناع الوطني من جهة أخرى، مما أدى إلى انشغال هذه الكتل بقمع بعضها بعضاً، إذ أن المواطنة العراقية دفعت بالهوّية الموحّدة إلى الواجهة وأزاحت صراع الهوّيات المفتعل إلى الخلف.

لقد انهارت كل أوهام الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة بكتلها الثلاث دفعة واحدة، حيث لم تصمد تحالفاتها المحصاصاتية أمام الواقع، بفعل انفجار مشكلات طبقية ووطنية، كالبطالة والفقر ودمار الزراعة و الصناعة الوطنية وشح المياه وتلوث البيئة واضطهاد المرأة وانعدام الحريات والفساد والتبعية لأمريكا والتدخلات الإيرانية والتركية والسورية والخليجية، ناهيكم عن تأثيرات الثورات الشعبية العربية التي أطاحت بالأنظمة التابعة الفاسدة.

لم تستطع المبادرات المطروحة إخراج هذه الكتل السياسية الفاسدة من النفق الذي دخلت فيه، فلا اتفاقية أربيل ولا اجتماع النجف ولا حتى كم التصريحات الهائل عن المؤتمر الوطني المزمع عقده، قد حلحلت حالة الإحتقان والإقصاء السائدة في المشهد السياسي العراقي. أصبحت العودة إلى منطق الحوار تعبيراً عن التمسك بالهوية الوطنية والحل الداخلي مستعصياً، كما هي إستحالة استمرار الحال على ما هي عليه، وكلّما طال الأمد زادت معاناة الناس وهمومهم. وحتى الآن لم تتبلور رؤية وطنية عراقية من داخل العملية السياسية، فالإرادة السياسية لا تزال قاصرة، ونزعات احتكار الحكم قائمة، ورغبة البعض في عودة الماضي مستمرة.

فشلت معركة إسقاط حكومة المالكي نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، تمثلت بالتخوف من عودة البعث إلى الحكم عبر بوابة القائمة العراقية هذا داخلياً، أما خارجياً فقد تمت ممارسة ضغوط أمريكية وإيرانية لمنع سحب الثقة، فالولايات المتحدة لم تعط الضوء الأخضر وإنْ بدت محرجة وترددت بعض الأطراف للخوف مما قد يدفع البلاد إلى أزمة أكبر، و لم يكن موقف الطالباني الذي اختلف عن موقف البارزاني بمعزل عن ضغوط إيرانية مباشرة أو غير مباشرة، كما أن القائمة العراقية لم تكن متماسكة بما فيه الكفاية، في حين أن التحالف الوطني كان أكثر تماسكاً. كما أن صدور فتوى من آية الله محمد مهدي الآصفي دفع بعض أنصار الصدر أو غيره للتردد بشأن موقفهم من المالكي، لاسيما وأن إيران لم تكن تحبّذ إزاحته، بل أنها أرسلت إشارات واضحة على هذا الصعيد عبّر عنها قاسم سليماني مسؤول الملف العراقي في لقاءاته مع سياسيين عراقيين.

وكان لفتوى آية الله كاظم الحائري المقيم في إيران، والذي يعتبر الصدر من مقلّديه بعدم انتخاب علماني لأي من مراكز القرار العراقي، إشارة أخرى على رفض علاوي ومن يمثله أو يكون شبيهاً له لمثل هذه المناصب، بل رفض العلمانيين ككل. فتحولت معركة سحب الثقة من المالكي لمصلحة مشروعه الذي يدعي تبنيه ألا وهو «المشروع الوطني العراقي» القاضي بتشكيل تحالف سياسي عابر للقوائم الطائفية والإثنية ويضم في صفوفه قوى من خارج العملية السياسية في إطار المصالحة الوطنية الشاملة.

الوضع الأمني لا يزال يراوح في مكانه وإن تحسّن قياساً لسنوات 2006 و2007 والخط البياني وإنْ كان في صعود، لكن هناك انتكاسات تحصل بين حين وآخر بسبب اختراقات وبسبب تفاقم الأزمة السياسية واستغلال أوساط مختلفة، لإثارة المزيد من الفتن، وهكذا يعود إلى الانتكاس، وسيظلّ الأمر على هذه الحال إنْ لم يتم رد الإعتبار للعقيدة الأمنية والعسكرية والتي تتلخص بالولاء للوطن وللمؤسسة، وليس للحزب أو لهذا الاتجاه السياسي أو الطائفي أو الديني أو ذاك.

يقتضي الأمر إعادة بناء الجيش العراقي على أساس الخدمة الالزامية  وتطهير الجيش وقوى الأمن، لأنه تم تشكيلهما على عجالة وبصورة مرتجلة، خصوصاً بدمج ميليشيات وصحوات بالجيش وبقوى الأمن الداخلي، وظلّت الكثير من الانتسابات في ولاءاتها محسوبة على الجهات التي رشّحتها، ولهذا تظهر اختراقات صارخة في صفوفها. ولعل عزل نحو 60 ألف منتسب من وزارة الداخلية قبل فترة قصيرة دليل على اختراقات كبيرة لهذه المؤسسة الحيوية، لأن غالبيتهم وربما يوجد أضعاف لهم ما زالوا على ولاءاتهم، مما يسهل التلاعب بتوجههم على حساب حماية الوطن والدولة وعلى حساب مصالح الشعب والمواطن فضلاً عن أن غالبيتهم الساحقة غير مؤهلة  مهنياً.

وإذا كانت الوطنية العراقية تفترض أن تحتكم جميع القوى السياسية الوطنية العراقية داخل العملية السياسية وخارجها إلى رأي الشعب العراقي في تقرير مصير الوطن وطبيعة النظام السياسي الذي يرتئيه مناسباً لتحقيق طموحاته في الحرية والحياة الحرة الكريمة، تفترض أيضاً أن تبرهن القوى السياسية الوطنية العراقية على أن برامجها السياسية وأنظمتها الداخلية تدعو وتعمل على تعزيز روح المواطنة العراقية القائمة على مبادئ وقيم الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، فتلك هي المقاربة السياسية والعملية المطلوبة.

إن القوى اليسارية والوطنية الديمقراطية العراقية إذ تلتقط اللحظة السياسية الراهنة تتجه نحو إقامة أوسع تحالف وطني تحرري عراقي، نواته اليسار العراقي،  يهدف إلى تعبئة الجماهير الكادحة من أجل إسقاط نظام المحاصصة الطائفية الإثنية وتطهير العراق من بقايا الإحتلال الأمريكي وإقامة النظام الوطني التقدمي القادر على تحقيق العدالة الاجتماعية.

10/09/2012

المصدر : مجموعة مقالات الكتاب اليساريين العراقيين

موقع اليسار العراقي

التيار اليساري الوطني العراقي