الإساءة للنبي محمد(ص): فصل من فصول الفوضى الخلاقة
لم تغادر فكرة الفوضى الخلاقة يوماً أذهان أسياد البيت الأبيض، واليوم نشهد في كل ساحة من ساحات العالم تجلياً ما لتطبيقات هذه الفكرة.
في هذا السياق جاءت قبل عقد من الزمن تقريباً أحداث 11 سبتمبر حيث شكلت الشماعة التي تذرعت بها الإمبريالية العالمية لشن حربها على كل شعوب العالم باسم الحرب على الإرهاب.
فشلت الحربيا على أفغانستان والعراق بإخراج النظام الرأسمالي العالمي التذ تديره قوى الإمبريالية من إقصاء شبح الأزمة الإقتصادية للرأسمالية، وسرعان ماضربت الأزمة مركز الإمبريالية الدولي في الولايات المتحدة في عام 2008 لتؤكد أن طريق الحرب كآلية لخروج الرأسمالية من أزمتها هو الطريق الأعلى تكلفة على القوى الرأسمالية نفسها كما أن هذا الطريق بات حلاً شبه مستحيل.
استعاضت المراكز الإمبريالية بفكرة الفوضى الخلاقة كآلية بديلة عن الحروب المباشرة، إذ تقوم هذه الفكرة على تسعير كل التناقضات الثانوية «العرقية، القومية، والطائفية، الإثنية» كي تعيش البلدان المستهدفة حالة من الصراع الدائم الذي يسمح بالتالي بهيمنة الدول الإمبريالية بالاستمرار دون مقاومة تذكر.
يمكن الآن الإعلان بكل وضوح أن أي تناقض داخلي في أي بلد مستهدف لا يصفي مصالح الغرب ويضعف في الوقت ذاته المصالح الوطنية العليا أنه يندرج في سياق الفوضى الخلاقة التي تسهم قوى الغرب في إذكائها تخطيطاً أو تسهيلاً أو دعماً وحتى تنفيذاً.
جاء نشر الفيلم المسيء للنبي محمد (ص) في هذا السياق، حيث فتح الفيلم بتصميمه الهزلي القذر والممعن في الاستفزاز والوضيع من حيث النص والإخراج والتمثيل والفكرة، فتح الباب مشرعاً لاستثماره في إطار مشروع الفوضى الخلاقة.
كان المطلوب على مايبدو زج الفيلم في الشارع المصري ليكون فتيل الإشتعال مابين المكونات الطائفية للشعب المصري، وفي الوقت ذاته قدّم الفيلم المشروعية الكاملة لنمو أوسع لبعض القوى الدينية الأكثر تطرفاً وهو مايسير في سيناريو إغراق مصر بنموذج الأسلمة بشقيه « الإخواني» الذي يدعي الإعتدال والسلفي الموسوم بأنه أكثر تطرفاً، وهو مايعني بشكل واضح استدعاء قوى محددة الطابع للظهور والتبلور والتجسد بأجسام شعبية وسياسية أكبر من ذي قبل.
لم تكن مهمة هذه القوى يوماً إلا خدمة الهيمنة الأمريكية وعت ذلك أم لم تع، فهكذا تم بناء نماذج مثل تنظيم القاعدة والعرب الأفغان ومقاتلي الشيشان وتنظيم الطليعة المقاتلة، فكل هذه القوى كانت مدعومة بشكل مباشر من حكومات الغرب أوعبر حلفائها كالنظام السعودي، هكذا بلورت الولايات المتحدة أعداءً افتراضين حتى يتحولوا إلى واقع يسهل على الولايات المتحدة عمليات الغزو والنهب ونشر فوضاها الخلاقة.
جاءت ردود الأفعال وفقاً للغرض المرسوم إلى حد ما، أي أن الولايات المتحدة عادت كما في 11 أيلول لتأخذ موقع الضحية والمستهدف، فالهيجان الشعبي العارم وهو أمر طبيعي لا بل متوقع والذي أدى إلى مقتل السفير الأمريكي في بنغازي مع اثنين من معاونيه أمن الجزء الأول من السناريو، أي سناريو الضحية وقد سعت بعض الجهات إلى تكريس هذه الفكرة ففي هذا السياق جاءت تصريحات الزعيم الروحي لتنظيم الإخوان المسلمين يوسف القرضاوي : « ليست أمريكا كدولة وراء هذا الأمر، نقول لأمريكا ينبغي أن يكون لك موقف أقوى، وتحاول أن تقف ضد هذا التطرف..»
ينسجم هذا الموقف مع مواقف كل من الحركات الإسلامية الصاعدة حيث أكد محمد مرسي رئيس مصر على أن الرئيس الأمريكي والشعب الأمريكي هم ضد هذا الفيلم وأسهب مرسي في الحديث عن حفظ دماء الدبلوماسيين الأجانب فيما كانت تنزف الدماء في المواجهات بين المحتجين و أمن السفارات في عدة بلدان عربية، هكذا ظهر الحرص المطلوب من مرسي على دماء الأمريكيين بينما لم يحمل أي من الأمريكيين مسؤولية الدماء التي نزفت وتنزف في كل مكان بفعل السياسات الأمريكية.
كما جاء بيان حركة النهضة في تونس بياناً ناعماً أدانت فيه الفيلم و رفضت فيه العنف ضد السفارة الأمريكية في تونس وجاء تصريح وزير الشؤون الخارجية التونسي رفيق عبد السلام ليعلن» أن اقتحام السفارة لايشرف تونس ولايشرف ثورتها ولايشرف التونسيين»، كما وصف الهجوم على السفارة بأنه إجرام سياسي وفوضى ولاعلاقة له بحرية التعبير.
يتبلور وفقاً للمعطيات السابقة للصورة القادمة - وهي مكررة عن صور مابعد أحداث 11 أيلول- مشهدان رئيسان:
تنامي دور بعض القوى المتطرفة والتكفيرية في المجتمع لتمارس دوراً سياسياً تجاه تكريس الفوضى بعدة أشكال .
تحول الحكومات العربية التي توسم بالاعتدال بمافيها الحكومات الجديدة الحالية إلى فرع آخر للاستخبارات الأمريكية ومنفذ مطواع لأجنداتها الأمنية بدواعي محاربة الفوضى والإرهاب.
ستتناقض هذه الصورة غالباً مع صورة شعبية أخرى مضادة هي المستهدفة، الصورة الشعبية هذه هي التي تعي جيداً أن استهداف النبي محمد(ص) يمس عقيدتها مثلما يمس مصالحها الوطنية العليا، فمن احتل العراق وأفغانستان ونهب خيرات الشعوب لايحتاج إلى تصنيع فيلم تافه ليهاجم عقيدة ومصالح هذه الشعوب كما أن نهج الحكومات العربية الحالية في تبرئة الولايات المتحدة من صناعة الفيلم هو موقف وضيع ويتناقض مع كل الوقائع التي تؤكد دور الولايات المتحدة في قتل ونهب الملايين في ليبيا والصومال وأفغانستان والعراق.
إن المحاولة المشبوهة التي تحاول وسائل الإعلام تكريسها على أن الصراع هو بين طرفين متطرفين أحدهما في واشنطن والثاني في عواصمنا هي لا أكثر من تفعيل فوضى خلاقة تهدف للتغطية على وقائع النهب والدمار والقمع التي مارستها حكومات الغرب تاريخياً وحالياً تجاهنا، وهو مايستدعي ليس الغليان الشعبي أمام السفارات لهذه الحادثة وحسب بل يستدعي إعادة النظر بجميع العلاقات الاقتصادية والسياسية على صعيد الدول وهو مايحاول الإسلام السياسي الصاعد الهروب منه بذرائع العقلانية ونبذ التطرف والإنفتاح على الآخر على الرغم من أنه استحقاق وطني ومصلحي بكل امتياز.