في تدقيق المفاهيم... هل ما يجري ثورة؟
يمكن لأي متابع للوضع السوري أن يلاحظ مدى تعقد الأزمة في هذا البلد. إلا أن ما يدعو للاستغراب هو «نظريات» بعض المثقفين اليساريين من هذه الأزمة، فتراهم يتماهون مع ما هو سائد من أفكار يعيدون صياغتها إنشائياً (في وهمهم ماركسياً) لتبقى عاجزة أمام الواقع. تتحكم العواطف وردات الفعل بهم، فيخرجون «بنظريات» هي نقيض للمعرفة العلمية، مما يفقد ممارستهم السياسية طابعها الثوري وبالتالي تتخبط هذه الممارسة بين المغامرة والانتهازية.
تقف، وتأخذ هذه الوقفة من وقتك وكأن التاريخ ينتظر هؤلاء الرفاق حتى ينتهوا من تحليلاتهم التي لا تنتهي. تحاليل تنظر إلى الواقع دون أن تراه، فتخرج بما في العقل من حلول مسبقة جاهزة تعتبر أن ما يجري ثورة ومن يقول غير ذلك متخاذل،وأن من لا يهلّل لها فهو يقف في وجه الشعوب وحركتها وحقّها في التحرّر والكرامة والديمقراطية وما إلى ذلك من المفردات التي أصبحنا نعرفها. روسيا تصبح إمبريالية وكذلك الصين. كيف لا وكل ما يهمّ رفاقنا هو إثبات صحة «نظرياتهم» بأية طريقة، من عليائهم، دون أن تثبت هذه النظريات حتى الآن أية صلة لها بالواقع أو بمجرى الأحداث.أيها الرفاق ( الثائرون) «إن الوجه النظري في الفكر يبقى تأملا إن لم يتجسد في نضال ثوري هو في النهاية مقياس لصحته» فهل بإمكانكم الكف عن التأمل؟
إن تسطيح ما يجري في سورية ومحاولة فرض الإرادات الذاتية في عملية تحليل الأحداث، يجعلنا نأخذ مواقف سريعة أو قل متسرّعة، إذا قارنتها بالواقع لتحصي نتائجها فإنك لن تجد إلّا مدنا أصبحت في خبر كان وشعبا يُقتل ويُهجَّر تحت شعارات لا دخل لها بمصالحه وبما دفعه للتحرّك. ولكن، ولأن هذا الكاتب أو ذاك لا يرى الواقع وحركته، فإن ما يكتبه لا يؤثّر بمجرى الأحداث بل تراهم يتكلمون عّما في الخاطر من أمنيات و أحلام...فهل يعلم هؤلاء الرفاق أنه « ليس بالحلم تكون الثورة»؟
هل ما يجري من أحداث في سورية هو ثورة؟ سؤال أصبح الجواب عليه يحتاج الى معجزة! (المتثورون) حسموا أمرهم، فهي «طبعاً» ثورة. إلا أن تحديدهم هذا يستخدم الشعور والأحاسيس والتكهنات وخاصة الإرادة الذاتية ، ولكنه يغيّب التحديد العلمي. يقول ماركس «ليس من المستحيل تحديد ضرورة الثورة في تطور التاريخ تحديداً علمياً». و يقول مهدي عامل «إن القيام بالثورة عن مجرد إرادة ذاتية، وإن كانت هذه الإرادة نبيلة، أو عن رغبة إنسانية - وفي كلتا الحالتين عن اختيار أخلاقي ، في وقت تاريخي ليست الثورة فيه ضرورة في منطق التاريخ، يجعل من الثورة مغامرة ترتد ضدها. وهنا يكمن منطق الفشل في تحقيق الثورة». للثورة شروط وأدوات لا تتحقق ضرورتها إلا بتوفر هذه الشروط والأدوات كاملة، أما غير ذلك فهو أما نضال سيستمر وبإستمراريته هذه يحقق هذه الضرورة، و يستند في نضاله هذا إلى نظرية علمية أي ثورية هي النظرية الماركسية. أو مغامرة جديدة تطيح بالثورة.فما رأيكم أيها المتثورون، هل تنظّرون لمغامرة؟
في إحدى محاضراته، يقول الشهيد مهدي عامل « فليدخل الفكرُ المناضل في صراع يستحثّ الخطى في طريق الضرورة الضاحكة. فهو اليانع أبداً، وهو اليَقِظُ الدائم، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذّر. يستبق التجربة بعين النظرية، ولا يتخاذل حين يُفاجَأ : يتوثّب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمّن للنظرية قدرتها على التشامل، ورحابة أفق يتسعُ لكل جديد. هكذا يكتسب كل نشاط نظري طابعاً نضالياً، ويتوق كل نشاط ثوري إلى التعقلنِ في النظرية، فتتأكد، بالتحام النشاطين في الملموس التاريخي، ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية».
هذا هو الحد الفاصل بين أن تكون مناضلاً ثورياً وبين أن تكون «شاعراً»..وفي الكثير من الأحيان، «شاعر» الكلمة الحزينة ولا نعني شاعر الضرورة من أمثال محمود درويش أو ناظم حكمت، بل مثقفين يتكلمون عن الثورة بالمجرد «من خارج كل زمان ومكان، لا عليها في حركة التاريخ الفعلية، وشروطها الملموسة» ظناً منهم أن الثورة هي لفظ أو تجرد. ولكن في سورية اليوم من يحاول أن يكون مناضلا ثوريا ينغرس ويتجذّر ويبني لطرحه الطبقي موقعا بعيدا عن «الشعر» من جهة وعن الفكر المأزوم المتمثّل بالنظام و«المجلس الوطني» من جهة أخرى.
وأتكلّم هنا عن خط سياسي يمثله حزب الإرادة الشعبية وفي مقدّمته الرفيق قدري جميل. فما يحاوله هذا الحزب هو، وعلى عكس كثيرين، القول بأن «الثورة هي طمي الأرض، لا يعرفها من يخاف على يديه من وحل الأرض»، يدخل الصراع بعين ناقدة ، مستبقا التجربة بعين النظرية بحيث أنه لن يتخاذل حين يفاجأ وقد دخل المعركة غير آبه بكل رواسب الانحطاط والاستسلام واليأس لدى معظم «اليسار العربي»..دخلها ليكون صوت الشيوعيين وبالتالي صوت الفئات الشعبية التي يحاول طرفا الصراع خنق صوتها. يدخلها ليخوض النضال «باتجاه الضرورة الضاحكة».
إنها الأزمة الرأسمالية بنسختها السورية، هذه هي الحرب الأخيرة التي تخوضها الولايات المتحدة الأميركية من موقعها كقطب وحيد في هذا العالم (فهذا الصراع له طابع كوني يتبلور بين الإمبريالية الأميركية والقوى الصاعدة (روسيا، الصين..) وفي كل من بلدان المنظومة الرأسمالية العالمية بما فيها الدول العربية). هذه الوضعية تذكّر بما مرّ به التاريخ قبل الحرب العالمية الثانية، وقد جاء كلام بوتين في اجتماع الأمن القومي الروسي ليوضح أكثر، فيقول بأنه «يجب أن تبدأ قفزة إلى الأمام في تحفيز الصناعة العسكرية على غرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي في ثلاثينيات القرن الماضي». ليس بوتين ستالين عصره، لكن هكذا استبق ستالين الحرب العالمية الثانية...هل لهذا الكلام أي مكان في نظرياتكم أيها الرفاق ؟ هل لديكم شك في أنه هناك محوران في العالم يتصارعان؟ هل يستبق بوتين حرباً؟ هل ترون ذاك الصراع الذي بدأ عسكرياً في أفغانستان و العراق بقيادة الجيش الأمريكي وفي لبنان وفلسطين بقيادة أداته الصهيونية وفيما بعد في السودان وليبيا واليوم سورية بأدوات جديدة؟ هل هناك مساحة ولو صغيرة لهذه الأحداث في نظرياتكم؟ ماذا عن الحرب الروسية في جورجيا؟ هل هذه حرب عالمية ثالثة من نوع آخر أم تهويل؟ أرى من كتاباتكم أنكم لا تعيرون هذه الأسئلة اهتماما كافياً، فهذه الأسئلة تندرج في إطار المؤامرة، والمؤامرة وهم أنتجه النظام، فلماذا إذاً كل هذا الكلام ؟
أخيرا، يقول سمير أمين في إحدى كتاباته حول الأزمة المالية، «أكثر من أي وقت مضى، إن النضال من أجل اشتراكية القرن الواحد والعشرين هو اليوم على جدول الأعمال». وأي طرح غير هذا يكون مغامرة جديدة.
• مسؤول قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني