الحرب.. الرئة الحديدة لفرنسا

الحرب.. الرئة الحديدة لفرنسا

تبدو سياسات الإمبريالية المستخدمة منذ الأزمة الرأسمالية الكبرى في عام 2008، أكثر فجاجة، وغباءً وهمجية، فمع اشتداد الأزمات واقتراب فصولها المتلاحقة، يبحث مسئولوا الغرب عن أي تبرير ومسوّغ للهروب من مواجهة الأزمة بأي شكل كان.

نقلت وكالة فرانس بريس عن صندوق النقد الدولي الذي ترأسه الفرنسية «كريستين لاغارد» تعليقاً على الأوضاع في مالي، مفاده أن : « أزمة مالي مصدر هشاشة لاقتصاد دول المنطقة «.

إن هذا التعليق الفرنسي-الإمبريالي، الصادر عن المؤسسة الدولية ذات النفوذ الكبير في دهاليز السياسات الاستعمارية الحديثة، ينم عن إمعان في تسطيح عقول مليارات البشر، وباعتقادنا إن منظمات حقوق الإنسان التي ترتع هنا وهناك في الدهاليز ذاتها، يجب أن تدرج في أدبياتها  بنداً مفاده «  إن إهانة العقل البشري جريمة بحق الانسان يعاقب عليها القانون الدولي» !

سيناريو كاريكاتوري.

اعتاد الناس لعقود طويلة على وقائع هزلية، ف «مالي»  وهي ثالث منتج للذهب في أفريقيا، والذي يمد ثلث المفاعلات النووية الفرنسية باليورانيوم، كما أنه من أكبر منتجي القطن في العالم، يُعد اليوم من أفقر بلدان العالم. كيف تستقيم هذه الحقيقة مع ادعاءات صندوق النقد الدولي؟!

في نيسان 2012 قامت مجموعات متمردة من الجيش بانقلاب عسكري على الرئيس « أمادو تومانو توري» قبل أيام من نهاية ولايته رغم أنه كان قد أعلن سابقاً عدم نيته للترشح. يُتهم توري من قبل ثلاث جهات بالتراخي في التعامل مع تمرد الطوارق في شمال مالي «إقليم الأزواد»، ( يعتبر تمرد الطوارق نتيجة مباشرة لغزو الناتو لليبيا حيث وصل الكثير من الأسلحة والمقاتلين الذين قاتلوا مع طرفي النزاع الليبي، كما أن هؤلاء اقتبسوا نموذج التغيير الليبي ذاته). إن كلاً من الولايات المتحدة وفرنسا، والانقلابين من العسكر، و ديونكوندا تراوري الرئيس الذي تم التوافق عليه افريقيا بعد الانقلاب وسرعان ما طالب بالتدخل الخارجي، كل هذه الجهات توافقت على إبعاد توري .

كان الانقلاب على الرئيس توري ( الذي كان قد أطلق في 11 تموز 2003 مبادرة القطن، حيث تتهم المبادرة دول العالم المتقدم وخصوصاً الولايات المتحدة، بخنق اقتصادات العالم الثالث، في القرنين السابقين، بالمساعدات الزراعية التي تمنحها الدول المتقدمة لمزارعيها وخصوصا مزارعي القطن. ولذلك تطالب المبادرة الدول المتقدمة بوقف الدعم لمزارعيها لمخالفته لبنود منظمة التجارة العالمية. كما تطالب المبادرة الدول المتقدمة بتقديم تعويضات عن الأضرار التي لحقت باقتصادات العالم الثالث على مدى القرنين السابقين. وتحظى مبادرة القطن بمساندة قوية من مجموعة ال77 بقيادة البرازيل والهند )، بمثابة المفصل الذي دفع البلاد إلى الفوضى العارمة.

فالمتمردون الطوارق في أزواد، رفضوا الرئيس الجديد « ديونكوندا ترواري»، ودخلوا في صراع مفتوح مع الجيش المالي مما أفقده السيطرة على شمال مالي، كما دخلوا في نزاع مسلح أيضاً مع مقاتلي تنظيم القاعدة العائدين من ليبيا منتشين بنصر « الناتو» ، و منهم  من جاء من أصقاع الصحراء الإفريقية، أما ماتبقى  من سلطات مالية فقد انبرت لطلبات التدخل الخارجي الفرنسي  في بلادها.

مفارقات، مضحكة

أعلن الفرنسيون التدخل العسكري باسم مجلس الأمن، وسرعان ما أعلنت الولايات المتحدة إقامة  جسر جوي لدعم القوات الفرنسية، حيث اعتبر وزير الدفاع الأمريكي بانيتا، أن هذه الحرب ليست حرب فرنسا وحدها، بل هي حرب دولية على «الإرهاب». كما ستشارك قوات إفريقية أيضاً إلى جانب الجيش المالي في هذه الحرب.

لكن ما يثير الاستغراب في هذه الحرب أن عدد المقاتلين الموسومين بتهمة «القاعدة» لايتجاوز 3 آلاف مقاتل، كما أن الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تأسست في 2011 بعد نهاية غزو الناتو لليبيا ، أعلنت تبرؤها من هؤلاء المقاتلين. كما أعلنت بعض هذه القوى في وقت سابق (حركة أنصار الدين) عن نيتها للتفاوض والبحث عن حل سلمي بعد وساطات جزائرية.

 لوحظ أيضاً أن الجزائر البلد الذي رفض التدخل العسكري في ليبيا ورفض أيضاً هذا التدخل في مالي، وافق مؤخراً على التدخل بعد زيارة كلينتون وزيارة أولاند التاريخية !.

أرسلت فرنسا حتى اللحظة 2500 جندي رغم فشلها منذ أيام بعملية للكوماندس في تحرير أحد عملاء استخباراتها المخطوفين في الصومال (أسفرت العملية عن مقتل ثمانية مدنيين، بينهم أمرأتان وطفلان، وقتل جندي فرنسي على الأقلّ وأسر آخر)، و تدّعي أنها ستعتمد على قوات إفريقية في ضبط السيطرة على أصقاع مالي البالغ مساحتها 1,200مليون كم2  . إن المفارقة المضحكة عندما نعرف تماماً أن هذه العملية تقوم ضد 3 آلاف مقاتل في صحراء هائلة، كما أن القوات الإفريقية والتي ستتحمل مسؤولية السيطرة على هذه الأصقاع لايزيد تعدادها عن 5300 مقاتل من ثماني بلدان إفريقية، و أن العمليات العسكرية يجب أن تنتهي خلال شهرين وذلك قبل بدء الأمطار الموسمية التي تعطل المهات العسكرية.  يدخل ضمن هذه المفارقات إعلان السلطات الفرنسية  درجة الاستنفار في المدن الفرنسية إلى الأحمر، وهو المربع الأخير قبل إعلان حالة الطوارئ !!.

تساؤلات مشروعة

تعي فرنسا جيداً أنها في أزمة اقتصادية كبرى، وبدلاً من  إلغاء خطط التقشف التي يتحملها دافع الضرائب الفرنسي، تزيد من إنفاقها الحربي في هذه اللحظات، فعلى مايبدو لم يعد أمام منظومة الرأسمالية إلا هذا الشكل الفج لإعادة تحريك عجلة النمو في الاقتصاد الفرنسي، إن هذا الشكل يقوم  على الحرب واقتصادها المكون من شركات السلاح وإعادة الإعمار، الحرب التي قال عنها لينين أنها: « الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية».

 لكن هذه الحرب تأتي في ظل اضرابات عمالية ومظاهرات واحتجاجات بسبب الأزمة الاقتصادية، فصحيح أن حالة الطوارئ - التي وُضعت في حالة التأهب  والتي من المفترض أن تشل أي حراك سياسي معارض- بذريعة الخوف من ردود فعل تنظيم القاعدة، لكن لا أحد يضمن موقف القوى الشعبية المتضررة من هذه الإجراءات في ذروة الأزمة المستمرة حتى اللحظة. 

إن الغزو الفرنسي وخلافاً لما يدّعي القائمون عليه،  سيستدعي الآلاف من المجاهدين والمقاتلين المتشددين وغيرهم، إضافة إلى أنه سيفتت بنية الدول الإفريقية المجاورة و المأزومة حالياً، وهو ما قد يدفع شمال إفريقيا كاملاً إلى فوضى الصراعات الأثنية  ( حيث لاتنفق مالي وموريتانيا والنيجر وبوركينافاسو مجتمعة على قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية أكثر من مبلغ 160 مليون دولار، إلى جانب ضعف تعداد القوات العسكرية: أقل من 20 ألف فرد بالنسبة لموريتانيا و10 آلاف لكل من النيجر ومالي) فلن تجد قوى قادرة على لملمة فوضى الفرنسيين!.

إن دروس التدخل السابقة إضافة إلى الوهن الداخلي في المنظومة الرأسمالية ترجحان احتمال تورط فرنسي يسفر عن نهاية مدوية، ففرنسا الآن في عنق الزجاجة، ولا أحد يستطيع تحمل تكاليف جر إفريقيا لمستنقع الحروب الطويلة.