أردوغان والرجل قصير القامة
أثار تعيين أردوغان والياً على شؤون السوريين في تركيا، والمناطق التي «يسيطر» عليها المسلحون، الاستهجان والاستغراب، أولاً، لأن الولاة يتم تعينيهم على إحدى المحافظات أو المقاطعات في تركيا.
وثانياً، في هذا التوقيت بالذات، وبعد مضي حوالي السنتين على انفجار الأزمة في سورية.
من المعروف أنّ تركيا كانت إحدى دول المواجهة الأولى في حلف شمال الأطلسي مع الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، وقاعدة عسكرية متقدمة له، لكن وبعد انحلال الاتحاد السوفييتي انتفت الحاجة لذلك ونشأت ظروف جيوسياسية جديدة لم تستطع القيادة التركية آنذاك التكيف معها بما يتناسب والواقع الجديد.
وكانت حرب الخليج الثانية أعوام 1990-1991 فرصة لتركيا لأن تعود من جديد إلى الشرق الأوسط الذي يمثل امتدادها الطبيعي، لكن الرئيس أوزال آنذاك، وبغض النظر عن رأي معظم مستشاريه والقيادة العسكرية، رمى بثقل تركيا الكامل إلى جانب الحملة العسكرية الأميركية على العراق، والتزم بعقوبات الأمم المتحدة ضدها بقطعه أنابيب النفط التي كانت تدر مليارات الدولارات على تركيا، ونشر حوالي مئة ألف جندي على الحدود معها، وسمح للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية لشن غارات حربية عليها.
وبعد الحرب سمحت تركيا للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا باستخدام قواعدها العسكرية لمراقبة الحظر الجوي في شمال العراق.
كما وقعّت تركيا مع إسرائيل اتفاقية للتعاون العسكري عام 1996 شملت خطة مشتركة لتدريب الطيارين العسكريين وإجراء التدريبات العسكرية المشتركة، واشترت تركيا أسلحة من إسرائيل في عام 1997 بقيمة ملياري دولار.
كانت القيادة السياسية في تركيا تأمل آنذاك أن تثبت لأمريكا، أهمية تركيا كشريك استراتيجي للولايات المتحدة، وأن يساهم ذلك في قبولها كعضو كامل الحقوق في الاتحاد الأوروبي، لكن الحسابات التركية لم تتناسب مع «البيدر الأمريكي والغربي»، لم تقبل تركيا في الاتحاد الأوروبي بالرغم من التنازلات الكثيرة التي قدمتها لهذا الغرض، ولم تصبح شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة بل ما حصل هو عكس ذلك.
كما أن هناك مسألة هامة لا بد من الإشارة إليها، وهي: أن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا كانتا قد شجعتا تركيا- الدولة الإسلامية العلمانية- إثر انحلال الاتحاد السوفييتي مباشرة، على الدخول بقوة والتأثير في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، لمواجهة تأثير إيران ومنعه - إلاّ أنه وبعد انتهاء «شهر العسل» في العلاقات الروسية-الأميركية إضافة إلى التقارب الروسي-الإيراني الذي أنهى الحرب الأهلية في طاجكستان تمّ الحدّ من هذا التأثير ما أدّى إلى تراجع الدور التركي في هذه المنطقة.
أخذت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تنطلقان من الواقع الجديد الذي نشأ في المنطقة، حيث ابتعدت تركيا عن واشنطن و هيأت هذه العوامل، وغيرها الأرضية لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة محققا نجاحات ساحقة في الانتخابات البرلمانية أعوام 2002 و2007 حيث تبنى هذا الحزب سياسة مغايرة للسياسات السابقة، وأحدث تحولاً هاماً في سياسة تركيا الخارجية، أخذت تعتمد على أسس إستراتيجية جديدة أهمها:
- إتباع سياسة خارجية مستقلة وعدم الانخراط في سياسة المحاور.
- الاعتماد على مكامن القوة الجيوسياسية لتركيا في علاقاتها الخارجية.
- محاولة التأثير في الأحداث السياسية الجارية في المحيط الجيوسياسي التركي من خلال البقاء على مسافة واحدة من جميع الأطراف.
- العمل على أن تكون تركيا دولة إقليمية قوية لها دور أساسي في آسيا الوسطى والقوقاز ومنطقة الشرق الأوسط.
وقد بدا هذا التغيير واضحاً من خلال التوجهات السياسية الخارجية، والتي أدت إلى:
1- تحسن العلاقات مع سورية.
2- انخراط تركيا في عملية السلام ورعايتها للمحادثات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل.
3- قيامها بوساطة في عدد من الصراعات والنزاعات في المنطقة.
4- تحسين علاقاتها مع إيران ودعوتها لحل سلمي للملف النووي الإيراني.
5- تحسين علاقاتها مع أرمينيا.
6- تحركاتها الدبلوماسية أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة لوقف الحرب.
إن التطورات التي جرت في تركيا أكدت للجميع حينها أن المواقف الرسمية التركية الأخيرة، لم تكن استثنائية، وإنما هي انعكاس للتطورات التي تبلورت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ودلّت على توجه استراتيجي جديد، يهدف إلى إعادة تركيا إلى بيئتها الطبيعية وعمقها الاستراتيجي.
وكان قد كتب مستشار أردوغان للسياسة الخارجية أحمد داوود أغلو حينها، ووزير الخارجية حالياً في كتابه «العمق الاستراتيجي» الذي صدر منذ عدة سنوات أن مستقبل تركيا ليس في أوروبا وإنما في آسيا ودعا إلى تأسيس «كومنولث» يضم الدول الإسلامية المجاورة بما فيها سورية وإيران.
تلقت دول الجوار وعلى رأسها سورية وإيران، هذا التحوّل بكل رحابة صدر، وطوّرت علاقاتها مع تركيا في جميع المجالات، حتى وصلت إلى المستوى الإستراتيجي، وسطع نجم تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية في المحيط، إيذاناً بعودتها إلى بيئتها التاريخية والجغرافية.
لكن موجة «الربيع العربي»، أسقطت القناع عن وجه أردوغان، وأظهرت أحلامه العثمانية الجديدة، ولعبت أمريكا وحلفاؤها على أوهامه هذه، واقتنع بأن هذا «الربيع»، سيكون عثمانياً، إن أحسن هو التصرّف، ونفّذ المطلوب منه.
لكن صمود الشعب السوري، ووقوفه الحازم بوجه المخططات الأمريكية – الصهيونية – الأردوغانية، ووقوف الدول الصديقة وعلى رأسها روسيا والصين وإيران، إلى جانب الشعب السوري، ضد أي تدخل عسكري خارجي، راح يبدد أحلام أردوغان العثمانية الجديدة، وبخاصّة بعد المناورات العسكرية الضخمة التي أجرتها إيران مؤخرا، والتي ستجريها روسيا قريباً.
لا شك أن أردوغان اقتنع بعدم إمكانية تركيا تحت حكمه، من منافسة نفوذ إيران «المنافس التاريخي لتركيا» في المنطقة والحد منه، ومجاراتها، نظراً للقدرات الاقتصادية، والعلمية، والعسكرية التي تمتلكها. واستحالة اقتسام «التركة» الروسية، بعد تعافي روسيا، وعودتها القوية إلى الساحة الدولية، وإنّ «الربيع العربي»، استنادًا إلى ذلك كلّه لن يكون عثمانياً، وهذا ما سيشكل بالنسبة له انتحاراً سياسياً.
لذلك قرر قبل تبدد أحلامه نهائياً أن يعيّن والياً ولو على شؤون السوريين النازحين المتواجدين على الأراضي التركية، والأراضي التي «تسيطر» عليها العصابات المسلّحة، وهذا ما يذكر بنكتة قصير القامة، الذي صعد إلى باص النقل الداخلي، بعد أن كانت المقاعد قد امتلأت، فأخذ مكاناً له بينها، وعندما انطلق الباص، كان الذين حوله طوال القامات، وتمكنوا من الإمساك بالمقبض المعلّق في سقف الباص، أمّا هو فلم تطل يده المقبض بعد محاولات عدة، وطوال الطريق راح يترنّح يمينا وشمالا بين المقاعد، وينظر حوله حاسدا طوال القامة على ما وهبهم الله من نعمة، ومتحسّرا على وضعه، وعندما وصل الباص إلى نهاية الخط ونزل جميع الركاب، صعد قصير القامة إلى المقعد المجاور، وتمسّك بالمقبض المثبت في سقف الباص للحظات، ثم نزل منه منتشياً مرتاحاً لما أنجزه.