مظاهرات فرنسا: إعلان نهاية حقبة نيوليبرالية
باريس - يعبّر ارتفاع ضغط الدم في المظاهرات، واحتجاجات الطلاب والشباب في أوروبا الغربية، عن حالة مَرَضية.
بلغة الطب، وفيزيولوجيا العصور الوسطى، يترافق ضغط الدم المرتفع في جسد الإنسان مع ميل المزاج إلى الغضب. وباللغة الفرنسية، كلمة «colere» تعني الغضب والسخط، وتجد مرادفاً لها، في جميع لغات دول العالم الغربي.
ترجمة قاسيون
ما يثير الاضطراب السياسي، القائم حالياً، ليس رفع سن التقاعد، إنما هو غضب الشعب على أولئك الذين تسببوا بالأزمة الاقتصادية، وتمت مكافأتهم، بينما تُرك الناس جميعاً يواجهون عواقبها. فمقارنة بأهدافها المفترضة، «التقاعد المبكر، ضمان حياة العاملين، الوفرة للجميع»، خرجت الاحتجاجات، كلياً، عن المنطق، وغدت غير مفهومة.
«سئم الفرنسيون حالهم»، هذا ما كتبه بيير فيانسون، قبل فترة قصيرة من انفتاح أبواب الجحيم على العاصمة باريس، في ربيع عام 1968. وتخلصت فرنسا من سأم حالها، إثرها.
في راهن زمننا، يتوق طلبة فرنسا ونقابات عمالها إلى اجتراح مأثرة تضاهي مآثر أيار 1968. وهذا يفسر، جزئياً، لماذا تلاميذ «ليسيه» (الذين تتراوح أعمارهم مابين 15-18 عاماً)، وحتى التلاميذ الأصغر عمراً، من «الزملاء» في المدارس الإعدادية الفرنسية، ينضمون إلى زملائهم الأكبر سناً من طلاب الجامعات والأساتذة، في مظاهرات التعبير عن الغضب. ويبرهنون على قدرتهم على نقل العدوى، وحتى على خطورتهم (لدرجة أن البوليس الفرنسي شعر بالخوف من التعامل مع متمردين أحداث، يستحيل ضبطهم أو التحكم بهم).
بعد أن صدرت إشارات تحدٍّ خفيفة لحكومة ساركوزي من أقلية من اتحادات فرنسا النقابية، وليس دافعها الأساسي أكثر من تفاصيل السياسات النقابية الداخلية، تجاوز اتساع نطاق الاحتجاجات الحالية قدرة النقابات على احتوائها، لدرجة أنها امتدت إلى الدول المجاورة، شاملة الموانئ، وعمال السكك الحديدية وورشات صيانتها، والمطابع، وسائقي الشاحنات، والموظفين في المعامل، وكافة عمال المرافق الأخرى، عملياً.
مثلما أعلنت أحداث عام 1968، انتهاء حقبة، تعلن أحداث خريف عام 2010، عن انتهاء عصر تاريخي. وكل أولئك الذين يدّعون أنهم إصلاحيو الحقبة الجديدة أو يحاولون الظهور كمصلحين، عاجزون عن الخروج من استحقاقات النظام القديم وبناه الأخلاقية، حيث تولى المال زمام السيطرة.
مثال ذلك لدى الأمريكيين، كان قرار محكمة الولايات المتحدة الدستورية العليا، في الشهر الأول من العام (قضية «مواطنون متحدون» ضد اللجنة الفيدرالية للانتخابات) الذي سلّم الحكومة الأمريكية لكبرى الشركات. إذ تم منح الشركات الاحتكارية (بأموالها المعلنة أو المخفية مصادرها ووجهتها، بما فيها مبالغ تمويل الحملات الانتخابية) حق التعبير الديموقراطي عن الرأي، الأعلى من كافة أنواع التعبير عن الرأي، والمهيمن عليها! مع العلم أنه يتوقع أن يتجاوز الربع مليار دولار، مبلغ الأموال الموظفة في انتخابات تشرين الثاني القادم النصفية، غير المصرح عنه، بفضل المحكمة العليا، مشكورة!
وفي غير بقعة من العالم الغربي، تنكشف الوظيفة الاقتصادية للمال المضارب جلية، بمثل انكشاف الجرائم التي ترتكب خدمة له، بما خلفته من ثروات لرجالات مالٍ ممن تم إنقاذهم على حساب دافعي الضرائب، وشركات عملاقة إداراتها خارج أوطانها معفاة من الضرائب. هذه حال عالم اليوم!
ومن جانبهم، سبق للأمريكيين أن أعربوا عن غضبهم من نتائج كل ما يجري، إنما بطريقتهم الفريدة من نوعها، التي تمثلت بالتشدد في مهاجمة الليبراليين وتقدميي الديموقراطيين الذين ينتقدون النظام برمته ويرغبون في تغييره. وبتجميع كل القوى للتصويت على زيادة قوة أولئك الذين تسببوا بالأزمة، إلى جانب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب ممن يؤيدون النظام ويرغبون بتخليده.
هذه هي حال عجائب الديمقراطية الأمريكية، حيث يمكن للأمريكي الأصيل فقط أن يرى الإيديولوجيا القومية التي تصرخ: «يحيا الثري الذي حقق ثروته اليوم! غداً سأصبح ثرياً! خفّضوا الضرائب على الأغنياء! ذات يوم سأغدو غنياً! كونوا أذكى من بقية العالم، وكافئوا أصحاب البنوك النهابين ومضاربي وول ستريت بمنحهم ثالوث التعويضات والعلاوات والمكافآت! مجِّدوا الشركات العملاقة التي لا تكتفي بنقل معاملها إلى الخارج، بل وإدارات محاسبتها أيضاً، كي تتمكن من أن ترفع عن كاهلها عبء الخضوع لمصلحة الضرائب الأمريكية!».. هكذا يتحدث الحكماء!
وتلك هي أزمة نسختي الرأسمالية الأمريكية والبريطانية، حاكمتي العالم منذ تسبب ميخائيل غورباتشوف بانهيار النظام الشيوعي، عبر إصلاحه. وخشي منافسو غورباتشوف العواقب، فأزاحوه مع النظام، وبالنتيجة، تولى اللصوص والنهابون زمام الحكم.
فابتهج الأمريكيون، وقرروا أن الرأسمالية الأمريكية هي التي «انتصرت» في الحرب الباردة. وإذا كانت الرأسمالية المنظمة والعقلانية استطاعت القيام بهذا الإنجاز، فبمقدور الرأسمالية المنفلتة واللاعقلانية إنجاز مأثرة أكبر عبر نهب مجتمعات الغرب والشرق على حد سواء! والنتيجة: كل ما نشهده منذ مطلع القرن الجديد، بعدما أظهر النظام الاقتصادي الغربي المنفلت تهتكه الأخلاقي، وولاءه لجشع لا تبدو له حدود، مهما تكن الوعود الخلّبية التي يقطعها باراك أوباما وديفيد كاميرون، زعيما الدولتين المسؤولتين عن تفجر الأزمة السارية.