أين العرب الآن من «سايكس - بيكو»؟

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى فرضت الإمبراطوريتان- الفرنسية والبريطانية- على شعوب منطقتنا خرائط جديدة بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، وألقت لندن وباريس بكل المتعاونين معهما من القادة العرب الواهمين بإمكانية قيام «مملكة عربية جامعة» في غياهب النفي، أو كلفت بعض الذين ارتضوا بدور التابع والعميل القيام بإدارة الحكم تحت إشراف الانتدابين الإنكليزي والفرنسي من المغرب العربي إلى الجزيرة العربية، وصولاً إلى بلاد الشام وأرض الرافدين.

ولا يفوتنا التذكير بأن الحدث الأبرز في التقسيمات الاستعمارية الجديدة آنذاك كان العمل على «إقامة كيان غريب وقوي في الجسر البري الذي يربط بين آسيا وأفريقيا العربيتين» حسبما جاء في تقرير رئيس وزراء بريطانيا كامبل بيترمان إلى مجلس العموم عام 1910، أي قبل إشهار وعد بلفور بسبع سنوات.

ومنذ ذلك الوقت تحول المشروع الصهيوني الذي جرى إقراره في مؤتمر بازل 1897 إلى نقطة الصراع الأهم بين حركة التحرر الوطني العربية وبين الحركة الصهيونية العالمية- رأس حربة الإمبريالية العالمية والحاضنة الأساسية لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين كثكنة عسكرية متقدمة لها في الشرق الأوسط تحمي مصالحها الاستعمارية وتمنع شعوب المنطقة من أي تقدم.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية جاء قرار تأسيس الجامعة العربية (آذار 1945) ليس من أجل جمع شمل العرب أو كما يتوهم البعض خطوة على طريق وحدتهم، بل بموافقة بريطانية- فرنسية بهدف إحكام السيطرة على الشعوب العربية عبر مجلس حكام يتولى قهر وضبط حركة شعوب المنطقة التي لم تهدأ انتفاضاتها وثوراتها يوماً ضد النظام الكولونيالي الذي فرض عليها بالحديد والنار. ومن جهة ثانية كانت مراكز اتخاذ القرار في لندن وباريس وواشنطن قد حسمت موقفها باتجاه إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ولم تشمل شرق الأردن بوعد بلفور حتى يتحول إلى «الخزان الذي سيستوعب النزوح الفلسطيني القادم من غرب النهر..» حسب تصريح ونستون تشرشل وزير المستعمرات آنذاك.

كما أن نتائج حرب 1948 تؤكد ما ذهبنا إليه حول الأهداف التكتيكية والإستراتيجية من إقامة الجامعة العربية، والتي كانت غالبية دولها تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر.

ولا ينكر أحد- إلاّ بعض المكابرين- أن حركة الشعوب العربية في مقاومة الاحتلالات ما بين الحربين العالميتين كانت أكثر فاعليةً مما أصبحت عليه بعد قيام الجامعة العربية إلى أن تغير الوضع نحو الأفضل بعد فضيحة حرب 1948 ونكبة الشعب الفلسطيني وبروز الحاجة الموضوعية إلى التغيير الثوري سياسياً واجتماعياً وديمقراطياً.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع قوى العملية الثورية على المستوى العالمي، جاهر النظام الرسمي العربي بتبعيته للإمبريالية أكثر من أي وقت مضى، وفقد دوره أكثر مع انفجار الأزمة الرأسمالية العالمية وأصبح يدار بالأوامر والإملاءات العلنية في خدمة المخططات الأمريكية- الصهيونية على مستوى المنطقة والعالم.

وإذا تفحصنا لوحة الجغرافيا العربية الآن والتحولات التي حدثت فيها منذ عام 2001 وحتى الآن بالمقارنة مع مخططات سايكس- بيكو نجد التالي:

ـ تحولت قضية فلسطين من حركة تحرر وطني وقضية شعب وحقوق وطنية مغتصبة إلى «مشكلة عقارية» بعد الاعتراف بالكيان الصهيوني في اتفاقات أوسلو بغطاء رسمي عربي يجيز استمرار المفاوضات مع حكومة العدو بعد استكمال بناء الجدار وتهويد القدس وفرض الحصار على قطاع غزة وبقاء أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال ونفي كل الحقوق الفلسطينية المقرة دولياً في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة وعاصمتها القدس!!

ـ تنتشر قوات فصل دولية في السودان والصومال ولبنان والصحراء الغربية والموريتانية إضافةً إلى عدد كبير من القواعد العسكرية الأمريكية والغربية من المغرب إلى بلدان الجزيرة العربية، ناهيك عن الأساطيل والبوارج العسكرية في مياه الخليج وبحر العرب والبحرين الأحمر والمتوسط.

ـ يلوح في الأفق شبح تقسيم السودان ليس فقط إلى شمال وجنوب، بل يجري العمل على فصل إقليم دارفور عن جسم الدولة وتتحول منطقة «أبيي» الغنية بالنفط والمعادن إلى ما يشبه وضع كركوك في العراق المهدد بالتفتيت في أية لحظة، ولا يغير من هذه الحقيقة إعادة تموضع قوات الاحتلال الأمريكي ولجوؤها إلى القواعد العسكرية الكبرى في الصحراء وخارج المدن العراقية على تخوم الحدود مع سورية وإيران والأردن.

ـ تتحول قضية «توريث» الحكم في مصر إلى عنصر إضعاف لكيان الدولة وإلغاء دورها الإقليمي وخصوصاً في أفريقيا، ناهيك عن عجزها عن أي دور في القضية الفلسطينية وحتى على مستوى حصار قطاع غزة، لا بل كان الدور المصري مكملاً لشروط الاحتلال الإسرائيلي في تجويع أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع.

وهكذا نلاحظ تغيير الخرائط دون تغير الحكام العرب، وكل ما نشهده يعبر عن فشل النظام الرسمي العربي في مواجهة المشروع الصهيوني، وهنا لا خيار أمام الشعوب العربية إلاّ التزام خيار المقاومة والنضال على جبهتين: جبهة دحر العدوان الأمريكي- الصهيوني وتحرير الأرض، وجبهة الخلاص من حكام دول الاعتلال العربي فاقدي الكرامة الوطنية!