مصر والطريق الصعب إلى الحرية
ماجد ابراهيم ماجد ابراهيم

مصر والطريق الصعب إلى الحرية

 يبدو أن المشهد السياسي المصري، الذي يستقطب اهتمام المراقبين والرأي العام العربي وإلى حد كبير الرأي العام العالمي، لمحورية الدور المصري ومكانة مصر الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأفريقيا، وتاريخها العريق في مراحل التطور الإنساني المختلفة، قد بدأ يبدد أوهام الكثيرين حول «الإنجاز الديمقراطي  العظيم لثورة يناير» بفوز «مرشح الثورة» محمد مرسي  عن طريق الانتخاب الحر. الرئيس الذي جاء بأصوات أقل من ثلث الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم  وكثير منهم صوت له نكاية بمنافسه أحمد شفيق والذي خسر المنافسة بفارق ضئيل، قدّم نفسه رئيساً لكل المصريين، وداعية للسلام والتسامح وسيادة القانون واحترامه، وجمّد عضويته في حزب الحرية والعدالة الإخواني مع البقاء تحت رداء المرشد خيرت الشاطر،  وخاطب المحتشدين في ميدان التحرير بما يناسب عواطفهم من التعبيرات الشعبوية الحماسية، ولعله استذكر بعضا من مَلكات الزعيم الراحل جمال عبدالناصر مع حفظ الألقاب.

امتلأ الإعلام بالتحليلات عن الزعيم الذي أوفى بوعده فأدّى اليمين الدستورية في الميدان ووزّع الوعود الكبيرة والصغيرة قائدا موحدا للأمة مسلميها وأقباطها ونسائها وشبابها. ثم انتقل الى المحكمة الدستورية لأداء القسم طبقا لمواد الدستور والإعلان الدستوري بأن «يحترم الدستور  والقانون»، فأثنى على المحكمة وقضاتها وأكد على احترام السلطة القضائية الأعلى والقانون ودولة المؤسسات، ليعيد هذه التأكيدات في خطابه في الجامعة وفي اللقاءات الرسمية وفي الإعلام.

رسَم الكثيرون رؤية وردية للحالة المصرية على أساس أن ثورة شعبية قد تحققت، ونظاما أسقط  وانفتحت أبواب الحرية والديمقراطية في مصر دون أن يلحظوا أنهم يمهدون لديكتاتورية أشد شراسة وأكثر تنظيما وقدرة على المناورة والتلون واللعب على العواطف والعقول مستخدمة أكثر الأسلحة خطورة وهو الدين والمذهب، وسيلاُ لا ينضب من المال السياسي والتضامن التنظيمي الأممي. أولى أدوات الديكتاتورية الزاحفة تصوير الوضع على أن وصول مرشح الاخوان والسلف الى السلطة يعني قيام نظام «ثوري» وأن كل من يختلف مع القادة الجدد أكانت جماعات سياسية أم من مؤسسات الدولة هم من «الفلول» والثورة المضادة ويعملون على عودة النظام السابق. وما يثير الدهشة أن تنظيمات تقدمية ومثقفين وأكاديميين محسوبين على التيار الديمقراطي يساهمون في تعزيز هذا التصور في الوعي الجمعي بما يخدم تكتيكات الاسلام السياسي في توظيف الشارع لتحقيق المكاسب السياسية وفقا لنهجه وأهدافه الحزبية.

إن المعركة الحقيقية بالنسبة للإخوان وحلفائهم قد بدأت للتو بالانقلاب على الدستور وإهدار سلطات المحكمة الدستورية غير القابلة للنقض، ومحاولة الامساك بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. لم ينتظر الإخوان كثيرا ليبدؤوا معركتهم، ولم ينتبه أحد لتلميحات مرسي في خطابه بعد اعلان فوزه في عبارة «الستينات... وما أدراك»، التي لا تخلو من التهديد والتذكير بصدامهم مع النظام المصري في ذلك الحين وبأنه قد نضجت الظروف وآن الأوان للانتقام وإقامة دولة الخلافة.

لم تنجز الثورة في مصر ولم يتغير النظام. هي الحقيقة التي تصرخ أمام الشعب المصري  وقواه الثورية التي أزاحت بعض رموز النظام ولكنها مهدت لاستبداله بقوى هي من صلب النظام الفاسد ونهجه الاقتصادي والاجتماعي، بل هي أكثر تخلفا في البعد الاجتماعي  والفكري  وتستهدف إقامة نظمَ حكم من خارج الزمن. ونرى رؤي العين انفلات فكر التشدد والعنف في المجتمع المصري المنفتح. شباب يُقتلون ويُضربون في الشوارع العامة على أيدي جماعات «الأمر بالمعروف» وتطارد النساء وتتم اهانتهم لعدم ارتداء «الزي الإسلامي»  ومنظمات دينية تنتشر وتسطو على المنابر لتكمل دور الفضائيات الاسلاموية في نشر الفتاوى المجنونة بالجنس والشيطان وبث روح التفرقة بين الأديان والمذاهب ومحاربة المظاهر الحضارية في المجتمع، في مسعى واضح المعالم لخلق أجواء نفسية مؤاتية للطبقة السياسية الجديدة  لتدير الرأي العام وتحركه في حربها على الدولة  مع استمرار توتير الشارع وابقائه في حالة استنفار ومواجهة تُنهك المجتمع ومؤسسات الدولة والاقتصاد  بغض النظر عن مضاعفات ذلك على حياة المواطنين وأمنهم  وأمن الدولة المصرية  واستقرارها. ويبدو أن الاخوان وحلفاءهم في سباق مع الزمن وقد حددوا أهدافا معينة يستهدفونها كونها المرتكزات الأساس لأي حكم استبدادي، وهي الإعلام والقضاء والجيش والأمن.

للاستحواذ على الإعلام ابتكر الاخوان قرارَ تشكيل لجنة من مجلس الشورى تختار رؤساء  تحرير الصحف والمجلات ووسائل الإعلام «القومية» أي المملوكة للدولة  من الصحفيين الذين يتعين عليهم تقديم طلباتهم وسيرهم الذاتية الى اللجنة لتختار من تشاء منهم. ولما كان مجلس الشورى تحت سيطرة الاسلاميين فالنتيجة تكون قد تحددت سلفا بتسليم الاعلام الرسمي بالتمام والكمال الى الحكام الجدد. أما معركة القضاء فهي الأخطر في تاريخ القضاء المصري  وبدأت بالمحكمة الدستورية التي لم يجرؤ النظام السابق على عدم تنفيذ أحكامها بحل البرلمان أكثر من مرة. إن قرار الرئيس المصري محمد مرسي بسحب قرار المجلس العسكري المُنفذ لحكم المحكمة الدستورية ببطلان انتخاب مجلس الشعب  واعادته، في تحد سافر للقضاء ولصلاحيات المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية الراهنة، يشكل ضربة قاصمة للسلطة القضائية ومحاولة مكشوفة للهيمنة عليها ويثير التساؤل عن الدور الأمريكي في هذا القرار الذي جاء مباشرة بعد لقاء الرئيس المنتخب بمساعد وزير الخارجية الامريكية وليام بيرنز وبعد  أن كانت السفيرة الأمريكية لدى القاهرة  قد طالبت خلال حفل السفارة بالعيد القومي لبلادها بضرورة «انعقاد مجلس الشعب». ويبقى التحدي الأكبر محاولة الاخوان السيطرة على الأجهزة الأمنية والجيش في مواجهة غير محسوبة العواقب  وقد انفتحت شهية الاخوان وأخذتهم الأحلام بعيدا تماما عن الواقع، ليؤكد حقيقة أن الجماعات الاسلامية تفتقد الى البرامج التنموية الحقيقية ولا تختلف في مذاهبها الاقتصادية عن النظام السائد والذي فرض سلطة استبدادية تخدم مصالح الطغمة المالية والسياسية الفاسدة على حساب مصالح الأغلبية الساحقة من الشعب  التي خرجت لتنزع قيودها فإذا بسجانين جدد تسلموا القيود ليعيدوها الى المعاصم الثائرة من جديد.

ستشهد الأيام القادمة تطورات دراماتيكية في المشهد السياسي المصري وسيجد أولئك الذين خرجوا الى الميادين في سبيل حريتهم ولقمة عيشهم أن معركتهم من أجل الحرية قد دخلت الآن مرحلة جديدة وأنه من دون فرز حقيقي للقوى المحركة لن تتحقق أية أهداف جذرية.