أفول النجم الأمريكي
في عام 1996، و ب0مناسبة يوم المسرح العالمي، كُلّف يومها الراحل الكبير سعد الله ونّوس بإلقاء كلمة قال فيها: «إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ». كان حينها التاريخ ينفث أدخنته البيضاء من آثار انهيار منظومة الدول الاشتراكية الواحدة تلو الأخرى. وأعتقد أن كلمة ونوس تلك كانت ردّاً على فرانسيس فوكويوما الذي نال شهرة واسعة من خلال كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الذي صدر عام 1992، بعد انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين. يعارض فيه نظرية كارل ماركس الشهيرة «المادية التاريخية» القائلة بأن نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني، سينتهي عندما تزول الفوارق بين الطبقات. وقد دافع (فوكوياما) عن فكرته في «نهاية التاريخ» بشراسة حتى أواسط عام 2005، حيث بدأ بالتراجع عن قناعاته تدريجياً، وصولاً إلى نقده الشديد للإدارة الأمريكية في بداية عام 2006 من أن الحرب العسكرية ليسن الإجابة الصحيحة على الحرب على الإرهاب. وأن كسب عقول وقلوب المسلمين حول العالم هي المعركة الحقيقية.
صحيح أن أمريكا عاشت ما يقارب العقدين الأخيرين بنشوة لم تشهدها ربما منذ تاريخ نشأتها، لكنني أستطيع القول بأن نجمها بدأ بالأفول و«إننا محكومون بالانتصار»(*). فلو رصدنا حالات الإخفاق في السياسة الأمريكية (زعيمة العالم الحرّ) منذ أن أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ونصّبت نفسها لتكون الحاكم الأوحد والقاضي والمفتش والجلاد لهذا العالم، لوجدنا أن المنحنى البياني لهزائمها على كل الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، ليس لمصلحتها أبداً. بل كان في تصاعدٍ مخيفٍ لها. وإن لعنة الفشل تلاحقها في كثير من الملفات الدولية:
فعلى الصعيد السياسي: تشير بعض المعطيات إلى أن الفشل على المستوى السياسي والاستراتيجي والعسكري في الشرق الأوسط قد بدأت مؤشراته تتجلى منذ أكثر من عقد؛ فقد فشلت الإدارة الأمريكية في أفغانستان وعجزت عن تحقيق الانتصار على منظمة القاعدة وحركة طالبان. بل إنها أصبحت تستغيث من هجمات طالبان المتكررة وسيطرتها على مناطق كثيرة. ولم تفلح في بناء عراقٍ تابعٍ للسياسة الأمريكية بعد إسقاط نظام صدّام حسين. بل يمكن القول بأن النفوذ الإيراني في العراق ازداد عمّا كان عليه قبل الغزو بأضعافٍ مضاعفة. وأعتقد أن الشعب الأمريكي قد أيقن حجم الخسائر الكبيرة التي تكبّدها جرّاء حرب العراق، والدليل على ذلك انتخابه وتصويته للرئيس الديمقراطي «باراك أوباما» الذي جعل من سحب الجنود الأمريكيين من العراق شعاراً لحملته الانتخابية، وكان هذا الشعار سرّ فوزه.
وعجزت عن فرض سلام حقيقي في الشرق الأوسط. وفشلت في التوفيق بين الإسرائيليين والفلسطينيين لتوقيع معاهدة سلام وإنشاء الدولة الفلسطينية. وأخفقت استخبارياً وعسكرياً في هزيمة حزب الله في حرب 2006 وحركة حماس في عام 2008 - 2009.
ولم تستطع إيجاد صيغة ما لمصلحتها في إنهاء الملف النووي الإيراني عبر الدول الأوربية المفوّضة أمريكياً في شأن هذا الملف. لا بل يمكن القول إن إيران في مفاوضاتها الأخيرة في بغداد بتاريخ 23 و24/5/2012 مع مجموعة (5+1) حول ملفها النووي، كانت في موقع القوي الذي يفرض الشروط. وأعتقد أن دلالة مكان المفاوضات لا يُخفى على أحد، وما الاتفاق على عقد جولة جديدة من المفاوضات في موسكو إلا تعزيز لهذا الاستنتاج. وبالتالي فإننا نستنبط بأن ثمة عقبات جدّية تحول دون تمكّن الولايات المتحدة من الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، خاصةً بعد تعثّر مشروعها في تركيع سورية حتى الآن.
وعلى الصعيد العسكري: من المعروف أن أمريكا تملك أكبر ستة أساطيل عسكرية في العالم، بالإضافة إلى تفوّقها وسيطرتها في مجال الفضاء. وتملك أكثر من ألف قاعدة عسكرية موزعة في أنحاء العالم. ناهيك عن الترسانة النووية الهائلة الموجودة لديها. ولكن لا يمكن فصل القوة العسكرية لأيّ بلد بمعزل عن البلدان الأخرى، خاصةً المنافسة منها. فكل التقارير العسكرية الاستراتيجية تؤكد بأن من أشدّ بواعث القلق لدى أوساط البنتاغون، هو تنامي القدرة العسكرية الصينية والروسية. اللتين أصبحتا مزوّدتين بأجيال جديدة ومتطورة من الأسلحة التقليدية والاستراتيجية. تهدّد جدّياً الوجود العسكري الأمريكي برمّته. ويكفي القول بأنه رغم جبروت القوة الأمريكية، فإنها لم تستطع «تهذيب» الدول «المارقة» كإيران (52% من التجارة العالمية للنفط تتدفق عبر مضيق هرمز يومياً. ولديها ترسانة عسكرية جبارة) وكوريا الشمالية (تملك أسلحة فتاكة تثير قلق العالم) وسورية (الداعم الرئيس لقوى المقاومة في المنطقة، ولا يستهان بقدراتها العسكرية).. ففي هذا الزمن لم يعد مالك القوة العسكرية وحدها هو صاحب الغلبة والهيمنة. وهذا ما حتّم على واشنطن التخفيف من غلواء جموحها العسكري، خاصة في العدوان العسكري الأخير على ليبيا. فهي لم تستفرد في عدوانها ذاك، بل اعتمدت بشكلٍ كبير على حلفائها في تنفيذ ضربتها.
أما على الصعيد الاقتصادي: تعتبر أمريكا من أهم الدول المنتجة للنفط في العالم. إلا أن ما تنتجه لا يفي بحاجتها. لأنها أيضاً أكبر مستهلك للنفط في العالم. حيث تستهلك وحدها نحو ربع الإنتاج العالمي المقدر بنحو 80 مليون برميل يومياً. فهي تستورد حالياً نحو 60% من استهلاكها النفطي. لذلك فإن اهتمامها الاستراتيجي بالهيمنة على منابع النفط يّعدّ في أولوية أجندتها. وهذا ما يفسّر علاقاتها الاستراتيجية مع دول الخليج العربي وإصرارها على إعدام أي شكل من أشكال الاضطرابات في هذه الدول. لأن ذلك قد يحول دون حصول الولايات المتحدة على نسبة كبيرة من وارداتها النفطية الشرق أوسطية. ولا يمكن تجاهل حرب أمريكا على أفغانستان والتي كانت تهدف أساساً إلى السيطرة على مصادر الطاقة في بحر قزوين (يختزن 270 مليار برميل من النفط وهو ما يمثل 20 بالمائة من الاحتياطات العالمية و665 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي) وكذلك الأمر غزو العراق واحتلاله فيما بعد (بسبب إقدام العراق على بيع النفط باليورو بدلاً من الدولار)، فهو جزء من الخطة الأمريكية لوضع اليد على أهم المناطق الغنية بالنفط. ولبقاء الدولار متسيّداً العملات الصعبة في العالم.
ولطالما اعتبرت واشنطن السيطرة على النفط إحدى ركائز قوتها ودورها على المستوى العالمي. فخلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية ظلّت نظرية الأمن القومي الأمريكي تقوم على ضرورة ضمان تدفق النفط وبأسعار معقولة، من أجل استمرار تحكّمها في الحلفاء (أوروبا واليابان) الذين يمثلون قوى صاعدة تطمح إلى دور أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة. ومن هنا كانت الولايات المتحدة تعتبر محاولة أي قوة في العالم للسيطرة على منابع النفط تهديداً مباشراً لأمنها. وعلى هذا الأساس تصرفت مع العراق عندما ضمّ الكويت في سنة 1990.
أما على الصعيد المالي: فمنذ أن فكّت الولايات المتحدة ارتباط دولارها بالذهب (بسبب عدم قدرة الذهب موازاة الدولار أو تغطيته نتيجة طباعته بكميات هائلة) وذلك في عهد الرئيس الأمريكي نيكسون عام 1971، حيث حققت من جرّاء ذلك أرباحاً خيالية. والتي تعتبر أكبر عملية سرقة في التاريخ، والعالم يعيش تحت الهيمنة بل العبودية الاقتصادية الأمريكية. فقد بات الدولار العملة الاحتياطية للعالم، مما أدى إلى استخدام الدولار بشكل متزايد وكبير في التعاملات بين دول العالم، حيث أصبحت 43% من معاملات الدول تستخدم الدولار و63% من احتياطيات البنوك المركزية العالمية أصبحت بالدولار. ولكن وبعد أن تشكّلت منظمة (شنغهاي) ومجموعة (بريكس) وبزوغ روسيا كلاعب استراتيجي على الساحة الدولية، بالإضافة إلى الصين (المكتظة خزائنها بالدولار) والتي تُعدّ من أكبر الدائنين لأمريكا. والتي تسعى مع دول أخرى كاليابان (الدائن الثاني في الترتيب لأمريكا) لإيجاد عملة عالمية جديدة تطيح بالدولار. فإن استمرار هيمنة الدولار على الأسواق العالمية أصبح موضع شكٍّ كبير. وطبعاً يجب ألا نتفاءل بإقدام هاتين الدولتين (الصين واليابان) على الإطاحة بالدولار في المدى المنظور، لأن هذا سيؤثر عليهما في المرتبة الأولى. فهما يَعتبران السوق الأمريكية أفضل سوق تصدير في العالم. لذلك يسعيان دوماً لخفض قيمة عملتيهما أمام الدولار من أجل استجراره إلى خزائنهما، مما يتسبب عملياً في ثبات الدولار. وبالتالي يصعب عليهما العمل من أجل خفض قيمته وإضعافه ومن ثم استبداله بعملة أخرى. وفي المقابل، فإن هذا لا يعني أنهما لا يمكن أن يقدما على خطوة من هذا النوع. فالكلّ يلهث وراء مصالحه. فإذا لاحظا انهيار الدولار لسببٍ ما، (كأن يستبدل تسعير النفط بعملة أخرى غير الدولار مثلاً) وإن القيمة الحقيقية لمخزونهما من الدولار سوف تتناقص بشكلٍ سريع ومستمر، ما يبشّر باستقالته وتقاعده. أو عندما تحصلان على سوق آخر للتصدير يغنيهما عن السوق الأمريكية، فإنهما والحال هذه، لن يتردّدا في المضي قدماً على الخطوة التي لا بدّ منها. وعندها ستزلزل الأرض زلزالها وستحلّ الكارثة على أمريكا.
تخيّلوا إقدام الحكومات والتجار في البورصات العالمية التي لديها احتياطيات بتريليونات الدولارات، على المبادرة لاستبدال الدولار بعملات أخرى.. ألن يؤدي ذلك إلى هبوط قيمة الدولار بشكل سريع ومضطرد إلى أسفل السافلين؟ ألن يسبّب في حدوث حالة من الهلع والخوف لكل من بحوزته هذه العملة؟ ألن يؤدي إلى موجة هائلة من البيع على أي سعر قد يواجهونه لأجل ألا يخسروا أكثر وأكثر؟ ماذا سيحلّ بالاقتصاد الأمريكي حينئذٍ؟
إن ما سبق ذكره يشير لا محالة إلى بداية انهيار الإمبراطورية الأمريكية. ويعبّر جدّياً عن مدى حاجة البشرية اليوم للبحث عن نظام مالي جديد، أكثر عدالةً وأماناً من النظام المالي الرأسمالي السائد، والذي أتاح للولايات المتحدة أن تستعبد العالم بدولارها الواهن حتى الآن..
والسؤال: هل ستبقى أمريكا ناجحة في إشغال العالم وإلهائه عن أزمة دولارها، من خلال إشعال الحروب وزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى والأمراض والفيروسات في أصقاع العالم؟ وإلى متى ستبقى ناجحة؟
المراجع الإحصائية: مواقع إلكترونية.
(*) ملاحظة: العبارة أعلاه، مقتبسة من مداخلة د. قدري جميل في أحد البيوت الساحلية، عندما سُئِلَ عن رؤيته للمشهد السياسي القادم فأجاب: «إننا محكومون بالانتصار، وما يجري اليوم هو بداية تاريخ جديد للبشرية».