أوروبا بحالها.. ولأمريكا حالها
ويليام بفاف ويليام بفاف

أوروبا بحالها.. ولأمريكا حالها

منذ البداية نشأت العلاقة معقدة بين أوروبا الغربية والمستعمرات الإقطاعية، التي عُرِفت باسم الولايات المتحدة لاحقاً، حين كانت مستوطنات شمال أمريكا بالنسبة للقوى العظمى مجردَ ذيول غارقة في الحروب، حروب الملك ويليام الثالث والملكة آن، والحرب الفرنسية الهندية، ثم تلاها تمرد المستعمرات الأمريكية ضد إنكلترا. وبعد ثلاثة عقود من ذاك التمرد، تجددت الحرب مع إنكلترا مانحةً الولايات المتحدة فرصة إعادة إعمار مدينة واشنطن ومبنى برلمانها الوطني المحترق.

ترجمة: موفق إسماعيل

في الحقبة المعاصرة، ما تزال العلاقة مع أوروبا معقدة، أكثر مما يعتقد الكثيرون، بسبب ترديها البطيء إنما الملحوظ، وتنامي عدم الثقة بين الطرفين نتيجة عدم استعداد الولايات المتحدة للتخلي عن اعتبارها دول الاتحاد الأوروبي مجرد توابع تدور في فلكها، كما كانت طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والوضع الذي ساد الفترة الكولونيالية، صار مقلوباً ، إلى حد كبير، إذ يمانع حلفاءُ أمريكا الأوروبيون حروبَ إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية.

وتنظر واشنطن إلى الوضع القائم حالياً باعتباره علامة على تفسخ المجتمع الأوروبي الذي طالما رعته الولايات المتحدة وعززته. فالأوروبيون يتصرفون بطريقة لا أوروبية(!) حسبما كتبه، مؤخراً، المراقب الأكاديمي الأمريكي «تشارلز كوبتشان»، في صحيفة «واشنطن بوست»، متحدثاً عن سَكرات موت المشروع الأوروبي نتيجة لـ«إعادة توطين» بيئته السياسية، فكل بلد من بلدانه يطلب استقلالاً كان، في السابق، متأهباً للتضحية به على مذبح كلّية المجتمع الأوروبي. وبالإمكان قراءة الشواهد على هذا الموت في انبعاث الجماعات السياسية ذات التوجهات القومية اليمينية، في اسكندنافيا وهولندا والبلقان، وكذلك شاهِدُ «رومان» فرنسا البارز في الأسابيع الأخيرة.

لكن المعاني الضمنية لكل ما يجري ليست بخطورة ما يحب الأمريكيون أن يعتقدوا، لأن الوعي الجمعي الأوروبي يشير إلى أن أوروبا تعيش عصراً لا رجعة عنه، بينما مكثت الولايات المتحدة في عصر آخر. ويكمن التغير الأكبر اليوم في علاقات أوروبا الخارجية، أكثر مما يكمن في مشاكلها الداخلية، الناشئة عن توسع الاتحاد الأوروبي داخل البلقان، بشكل رئيسي. ففي أوروبا الغربية، المهيمنة على الاتحاد الأوروبي، أخذت تضعف العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن انحسرت موجة «الولع بأوباما» وغارت لجنة منح جائزة نوبل للسلام في أرض العجائب التي طلعت منها، وبانت الولايات المتحدة على حقيقتها، لا كما رأتها، في الماضي، أجيال أوروبية أسبق.

منذ الحرب العالمية الثانية، وتحت تأثير الانتصار فيها وفي الحرب التالية الباردة، أكد السياسيون الأوروبيون مراراً، البريطانيون منهم خاصة، على متانة روابط الوحدة بين أوروبا والولايات المتحدة. لكن، حتى نيكولا ساركوزي، اليوم، تحرر من وهم هذا «الحكي». أما توني بلير فأعلن في تصريح حديث له أنه في أصعب الأيام التي مرت بها بريطانيا، عام 1941، كانت الأرواح تصعد إلى السماء وهي مؤمنة بأن الولايات المتحدة «موجودة هناك»، على الدوام!

إنما الولايات المتحدة لم تكن «موجودة هناك» في الحرب الأوروبية ضد ألمانيا النازية، إلا بعد أن أعلن هتلر الحرب على الولايات المتحدة، دون تعليل، في الحادي عشر من آخر شهر في عام 1941، أي بعد أن مضى ثمانية عشر شهراً على اندلاع الحرب. وإدراك البريطانيين ومعرفتهم لهذه الواقعة يشكلان حالياً خلفية تنامي الضغط الشعبي على الحكومة طلباً لسحب القوات البريطانية من أفغانستان. إنما يبدو أن معظم الأمريكيين ما زالوا يعتقدون بأن الولايات المتحدة، في كلتا الحربين العالميتين، كانت «موجودة هناك» تنقذ الديمقراطية منذ لحظة بزوغها!

في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة تُسلح الحرب بديونٍ تخلت بريطانيا لقاءها عن قواعد إمبريالية ومُلكيات استعمارية معلومة، وعن احتياطيها النقدي. ولم تنتهِ من سداد ديونها لخزينة الولايات المتحدة إلا في عام 2006 (اعتقد بعضهم، عن سذاجة، أنها ستُشطب بعد انتصار الحلفاء عام 1945)، ولست أدري ما إذا كانت قد طلبت إيصالات تسديد الأقساط أم لا!

وبالمقابل، حتى هذه اللحظة، لم تُقدَّم لتوني بلير أية حسومات لقاء إعارته الجيش البريطاني لجورج بوش من أجل غزو العراق في عام 2003، وحرب أفغانستان. بل إن الحكومة الأمريكية ووسائل إعلامها صعّدت، طيلة الفترة الماضية، حدة انتقادها لقرار سحب بريطانيا قوات مشاة البحرية الملكية من منطقة سانغن في إقليم هلمند، حيث تكبدت أكثر من مائة قتيل منذ عام 2001، وحلت القوات الأمريكية محلها. مع العلم أن بريطانيا ما زالت تحتفظ بـ9500 جندي ضمن قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، بينما انسحب الهولنديون ويعبر بقية الحلفاء الأوروبيين عن خيبة أملهم، وشكهم بجدوى استمرار هذه الحرب، أكثر من تعبيرهم عن الشك بحركة طالبان المستفيدة من المناخات الوطنية وما يتولد عنها من تعزيز للمشاعر المناهضة للغرب.

أما جوهر المسألة فيتمثل في أن الحرب الأمريكية على «المتطرفين الإسلاميين» هي سبب تبعثر قوى التحالف، وستبقى كذلك. وهو ما لم يتم استيعابه بشكل جيد على ما يبدو، حتى أن تشارلز كوبتشان يشكك بفائدة التحالف مع أوروبا فيما الأوروبيون غير مستعدين للتضحية في سبيل أهداف و«قيم الجماعة»! ويسأل عما تنفع له رابطة الدول الأوروبية الهشة التي تفتقر إلى الحد الأدنى من النفوذ الجيواستراتيجي! ولا تملك من القدرات العسكرية إلا القليل!

كما يرى أن هذا الوضع يترك الولايات المتحدة وحيدة «بلا شريكٍ مستعد أو قادر على حمل أعباء عالمية الطابع»! مؤكداً أن هذا الأمر يبرز، في هذه الأيام، ويغدو محسوساً عندما تطلب الولايات المتحدة دعمها عسكرياً، وتقيّم حلفاءها، بالتالي، من خلال ما يستطيعون تقديمه، وما يقدمونه.

أخطأ كوبتشان الفهم كما أخطأه غيره من الأمريكيين. الولايات المتحدة تضع «المهمات العالمية» بنفسها ولنفسها، والسياسات التي تتبعها لتنفيذ تلك المهمات سياساتُ حربٍ، ما عاد يؤمن بها الأوروبيون.