«الشعب يريد»... في السودان أيضاً
هل السودان لاحق بركب الانتفاضات العربية؟
لو سئل حسن الترابي، زعيم المؤتمر الشعبي المعارض، لأجاب: نعم. وهو توقّع ثورة من ثورات «الربيع العربي» في السودان تسفر عن نظام تعددي منذ مطلع هذا العام.
الشرارة كالعادة اجتماعية: قرار حكومي برفع الدعم عن المحروقات من ضمن سلّة من إجراءات التقشف، ما يؤكد مرة بعد مرة ضرورة إدراج الثورات العربية بما هي موجة مشتركة ضد الاجراءات النيوليبرالية.
تظاهرت طالبات في جامعة الخرطوم للاحتجاج ضد الغلاء ورفع الدعم وهتفن للحرية ودعين لاسقاط النظام. في الايام التالية، امتدّت التظاهرات إلى جامعات أخرى وإلى الأحياء العمالية جنوبي العاصمة. اجتاحت قوى الأمن سكن الطلاب وأحرقته.
جرياً على تقليد أرساه زملاؤه من الدكتاتوريين المخلوعين، أو السائرين على طريق الخلع، أكّد عمر البشير أن ما من دكتاتور يفيد من أخطاء دكتاتور آخر. اختصاراً للوقت وفي مسعى لـ «فسخ القط» من البداية، نزل بكل أسلحته دفعة واحدة. أعلن أن تظاهرات الاحتجاج مجرد «فقاعة»، ونفى أن ما يجري في بلاده «ثورة ربيع عربي»، واتهم الشباب بأنهم «مخرّبون» يعملون لمصلحة «الخارج». تبارى أعوانه في التذاكي والتصعيد. اتهم أحدهم الشعب بأزمة الغلاء لأنه يعيش فوق قدراته المادية. وتوعّد آخر بأنه أسهل على المحتجين لحس أكواعهم من إسقاط النظام.
وجرياً على تقاليد زملائهم في الثورات العربية الأخرى، ردّ شباب السودان بتفتّق للعبقرية الشعبية فدعوا إلى تنظيم يوم «جمعة لحس الكوع»! جرّوا أحزاب المعارضة إلى إعلان موقف. فاجتمع «تحالف الإجماع الوطني» وأصدر بياناً دعا فيه إلى «إسقاط النظام» والتمهيد لإعلان دستوري جديد.
في «جمعة لحس الكوع»، استخدم الأمن التكتيك «السوري» لمنع المتظاهرين من الوصول إلى وسط العاصمة ومن الاستيلاء على ساحات والتمركز فيها. استخدموا الضرب بالعصي والغازات المسيلة للدموع، فاستحقوا لقب «الشبيحة». كثرت الاعتقالات وازداد عدد النساء بين المعتقلين.
يحكم عمر البشير رئيساً للسودان منذ٢٣ سنة. ولعل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خلال عهده تلقي الضوء على أسباب الانفجار الذي شهده السودان الأسبوع الماضي.
في السياسة الاقتصادية، واصل البشير الاستهتار بتنمية قطاعي الزراعة والصناعة على خطا سلفه جعفر النميري. في زمن ليس بالبعيد كان السودان يلقّب بـ«أهراء العالم العربي» لثروته الزراعية والحيوانية الجبارة. وقد رشّحته الوكالات الاقتصادية والتنموية العربية والدولية بأنه قادر بمفرده على ضمان الأمن الغذائي للعالم العربي برمته. وكان ذلك قبل أن تطبق الولايات المتحدة على مصادر المواد الغذائية العالمية لتحتكر الأسواق احتكاراً لا يلقى ما يستحقه من الفضح والنقد والتشهير والمقاومة والتغيير. والحصيلة الفاجعة الآن أن السودان يستورد الغذاء بمليارات الدولارات.
ومع أن ثروة السودان تزايدت جراء العائدات النفطية، غلب استخدام الأموال النفطية، كما العادة، للفساد والإفساد والتبذير، ناهيك عن هدرها في حروب البشير الداخلية التي لازمت عهده ولا تزال.
يخوض النظام منذ العام ٢٠٠٣ حربا دموية في ولاية دارفور استدعت اتهاما دولياً للرئيس السوداني بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وإزاء رفضه المثول أمام المحكمة الدولية، فُرض عليه العزل والحصار الدوليان بكل ما يحملانه من ضرر وخسائر للسودان وشعبه.
يصادف الأسبوع الجاري الذكرى الأولى لانفصال الجنوب السوداني وتكريسه دولة مستقلة في التاسع من تموز ٢٠١١. في العام ٢٠٠٥ توسطت الإدارة الأميركية لعقد اتفاقية سلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، عرفت باتفاقية «نيفاشا». وضعت الاتفاقية حداً لحرب دامت عقدين من الزمن كان «الوسيط» الأميركي، خلالها، الداعم الأول للحركة الشعبية لتحرير السودان بالسلاح والعتاد والمال، إلى جانب الدولة الصهيونية.
قضت اتفاقية «نيفاشا» بمرحلة انتقالية يقوم فيها نظام فيدرالي بين شطري البلاد تشارك فيه الحركة الشعبية بحصة وازنة في كل مستويات السلطة والادارة. لم يلتزم البشير بالاتفاقية. وفشل في استثمار الفترة الانتقالية لإقناع أكثرية الجنوبيين بالبقاء داخل الكيان السوداني الواحد. آثر الاستئثار بالشمال على إدارته مع شريك جنوبي لمصلحة السودان شمالا وجنوبا. بل انه سهّل عملية الانفصال بالاتفاق مع إدارة الرئيس أوباما الذي تعهد له بالحفاظ على نظامه ورفع العزل عن شخصه. لم تلتزم الإدارة الأميركية بتعهداتها للبشير. وتم انفصال الجنوب بعد أن صوّت له ٩٩٪ من المقترعين.
باختصار، فرّط البشير في وحدة السودان ولم يحقق من تسهيل الانفصال الجنوبي أي استقرار للشمال أو أي تحسين لأوضاعه. على العكس تماماً من ذلك، خسر الشمال عائدات النفط التي تنتج من حقول الجنوب وتبلغ ثلثي مجموع العائدات. ونشب النزاع على اقتسام العائدات. رفض الجنوب المستقل شروط المحاصصة التي كان يرتضيها زمن الوحدة. فأخذ الشمال يهدد بوقف ضخ النفط في الأنابيب التي تنقل نفط الجنوب إلى مصباته عبر أراضي الشمال. والمعلوم أن الصين هي أكبر مستثمر في شركات النفط العاملة في الجنوب (نحو ٢٠ مليار دولار). فعرضت بيجين على دولة الجنوب قروضاً سخية لبناء أنبوب نفط جنوبي يمرّ عبر كينيا. ردّت الخرطوم على هذه الإمكانية بمحاولة استعادة البعض مما خسرته من نفط الجنوب بواسطة الحرب. والآن يضطر جيش السودان، المنهك والمدمّى في حروب دارفور، إلى خوض حربين جديدتين في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
الاحتجاجات التي شهدها السودان الاسبوع الماضي مجرد شرارات. قد تلقى حقلاً من الهشيم يتسع لتحويلها إلى انتفاضة شعبية أو لا تلقى. الكثير يتوقف على سلوك السلطة وعلى مدى استجابة أحزاب المعارضة لنداء الشباب في الشوارع والساحات.
السودان هو البلد العربي الرائد في الثورة ضد الانقلابات العسكرية ومن أجل استعادة الحياة الدستورية المدنية الديموقراطية بالنضال الشعبي والسلمي. أي أن للحراك فيه تراثاً يعود إلى الستينيات من القرن الماضي. لكن الجديد في المشهد السوداني أن مطالع الانتفاضة الحالية موجهة ضد سلطة تقدّم نفسها على أنها سلطة... إسلامية.