الثورة حين لا تصل إلى منتهاها.. يرثها الأوغاد
في حضرة الثورتين العظيمتين، مصر وتونس، لا بد من استحضار الدروس القديمة التي كلفت الكثير من الدماء ريثما استوعبت. وخصوصاً حين نرى أن دماءً كثيرة ستهدر، ريثما تنتج هذه الدروس مجدداً وتتحول إلى ممارسة واقعية..
الثورة السلمية تكلف أكثر بكثير!
ما يريده العالم الرأسمالي «المتحضر» لثورتي تونس ومصر، هو أن تكونا تكراراً للثورات الملونة (منذ أواخر الثمانينيات في أوروبا الشرقية وحتى الأمس القريب في أكثر من بلد في العالم)، الثورات التي ورثها الأوغاد الرأسماليون، وأوصلت النمو السكاني في تلك الدول إلى أرقام سالبة، وكبلتها بقيود صندوق النقد الدولي، وقضت على أي إمكانية لاستقلالها الاقتصادي وسيادتها، إلا بثورة جديدة ذات لون واحد.. والتسمية، ثورة الياسمين، التي حاول الكثيرون إطلاقها على ثورة تونس، ثم ثورة البنفسج التي يحاولون إطلاقها على ثورة مصر، تؤكد محاولة الالتفاف عليها من الداخل وتشبيهها بتلك الثورات..
مليونا شخص في ميدان التحرير يناشدون المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، للضغط والتدخل «الإيجابي» ضد عجرفة ووحشية النظام، وبعدها بأيام تبدأ التراجعات بالظهور، فيتراجع المطلب من إسقاط النظام إلى إسقاط الرئيس.. مليونا شخص يناشدون؟؟ وهم القادرون على حرق الدنيا بمن عليها، إنهم يناشدون لأنهم ببساطة لم يقوموا بالخطوة التي اعتبر ماركس عدم القيام بها السبب الرئيسي لفشل كومونة باريس، لم يسيطروا على البنوك.. البنوك هي روح الرأسماليين، التي لو توجه المصريون إلى قبضها أو حتى التهديد بقبضها، كانوا لجعلوا العالم بأسره يركع عند أقدامهم، لكن أين هي الحركة السياسية التي تستطيع تنظيم مثل هذه العملية؟؟
لوثة التعددية وغياب التمثيل الحقيقي
تتفق جميع الأحزاب والحركات السياسية في مصر، وقبلها تونس، على أنها ستبقى يداً واحدة إلى حين إسقاط النظام، الذي تجري محاولات مكثفة لاختصاره بالرئيس، وبعدها يحلها ألف حلال..
من الدروس الهامة لثورة أكتوبر، أن لينين وفي فترة ما قبل الثورة، انصرف كلياً إلى ما سماه ستالين لاحقا، ضرب البدائل المزيفة، ومعنى ذلك أن لينين كان يرى موضوعياً أن القيصرية زائلة لا محالة، وبالتالي فإن الهجوم الأساسي يجب أن يتجه إلى البدائل المزيفة التي تقدم نفسها للناس على أنها الجديد المعافى، في الوقت الذي ستعيد، في حال وصولها إلى الحكم، خلق النظام الاستغلالي القديم ولكن بصور وشعارات براقة وملونة، سرعان ما ستخبو، لكن بعد أن يكون «حصل الذي حصل». وستضطر الشعوب إلى بذل المزيد من الدماء لتصحيح تمثيلها السياسي مجدداً، لذا انصرف لينين في فترة ما قبل الثورة، وأيضاً في فترة حكومة كيرنسكي إلى تعرية المناشفة، والكاديت، والإشتراكيين الثوريين.. وغيرها من الحركات التي قدمت نفسها كبدائل. لا يجب أن يفهم من الكلام أنها دعوة لشق صفوف المتظاهرين، ولكنها تحديداً إعادة توجيههم نحو تمثيلهم الحقيقي، فإذا راجعنا مطالب الناس، سنرى أنها بالمقام الأول وقبل كل شيء، مطالب اقتصادية-اجتماعية تم إفراغها من مضمونها بتوجيهها نحو شكل «ديمقراطي» يقوم على تداول السلطة، وحرية التعبير، وإلى ما هنالك.. في الوقت الذي نجد فيه شعوب أوروبا، وهي رب الديمقراطية وحرية التعبير، نجدها ضاقت روحاً بديمقراطيتها الوهمية، تلك الديمقراطية التي تعطيها الحق بتغيير وجوه مستغليها، ولكن لا تسمح لها أبداً بضرب الاستغلال، في الوقت نفسه فإن المطالب الديمقراطية هي جزء أساسي من أي ثورة، ولكن حين تأتي كتكثيف للمطالب الاقتصادية- الاجتماعية، فالحركات السياسية في مصر إذ تنتقد النظام القائم، تحيل المظالم الاجتماعية إلى سبب وحيد هو دكتاتورية الحاكم وحزبه، ولا تنتقد النموذج الاقتصادي الذي اتبعه ذلك النظام، وبالتالي فهي لا تقدم بديلاً حقيقياً، والبديل الحقيقي يبدأ قبل كل شيء من البديل الاقتصادي الذي يجد تعبيره السياسي بشكل أو بآخر. اللجان الشعبية التي شكلها الشعب المصري، ومن قبله الشعب التونسي، هي النواة الحقيقية لحركة سياسية جديدة، تقود الثورة إلى منتهاها، كي لا يرثها الأوغاد.
أياً كان مصير الثورة في مصر وفي تونس، وأياً كانت نتائجها، فهي في أكثر السيناريوهات تشاؤماً، أي إعادة خلق النظام المستغل غير الوطني القديم، فإنها تشكل كموناً لثورات قادمة تصل إلى منتهاها، كما كانت كومونة باريس، كموناً لثورة أكتوبر، وهي قبل كل شيء باب عريض وثقيل تم فتحه، ولم يعد من الممكن إغلاقه أبداً، إنه باب الثورة الاجتماعية..