قبضات شعب مصر تدق جدران الخزان
عََبَرَت انتفاضة شعب مصر نحو أسبوعها الثالث، وهي أكثر جذرية، وإصراراً على النصر. فقد تقدمت خلال الأيام الأخيرة خطوات للأمام على طريق امتلاك شروط الثورة الشعبية العارمة.
هذا الانتقال عززته مشاركة أكثر من ثمانية ملايين مواطن ومواطنة، في كل المحافظات، هتفت بصوت مجلجل «الشعب يريد إسقاط النظام» وأعلنت برنامجاً من سبعة بنود، حدد أهداف الانتفاضة المجيدة. لم يكن الشعار مستورداً، كما يحلو للبعض ترداده، بل كان نابعاً من معاناة استمرت لأكثر من ثلاثة عقود، مارس فيها النظام اضطهاد الشعب، ونهب خيرات وموارد الوطن، عبر أساليب وحشية جديدة، تجلت في قتل المواطنين بمراكز الشرطة وأقبية المخابرات، وسحق إنسانية المتظاهرين وكل المناهضين لسياساته. وتحويل الدولة لمزرعة/ شركة خاصة، تديرها شبكات من المافيا المرتبطة بقمة هرم النظام. كل ذلك كان ناتجاً عن الارتباط الكامل بالسياسات الأمريكية/ الصهيونية، والارتهان لمخططاتها، عبر نقل مصر من خط المواجهة والصدام التاريخي مع العدو الصهيوني، إلى تابع له، حارس لحدوده، وداعم له، في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية. وقد ساهمت مهزلة انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، وأحداث تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية- التي ثبت فيها تورط أجهزة النظام- لتكون الشرارات التي أشعلت النار في هشيم الأرض المصرية.
لعب الشباب المصري، المتعلم، المثقف، المتفاعل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، دوراً أساسياً ورائداً في صناعة التحرك. هذا الجيل الذي يعاني من مصادرة حقه في التعبير، والمشاركة السياسية، والعمل. وبذات الوقت، لتحسسه ومعايشته المباشرة في محيطة الاجتماعي، بالكوارث الوطنية والاقتصادية التي تنتج عن سياسات النظام. استطاع هذا الجيل الشاب حشد الآلاف من أبناء الشعب- خاصة المهمشين والفقراء، لكونهم من أكثر فئات المجتمع المصري بؤساً واضطهاداً- في ميادين القاهرة، خاصة ميدان التحرير، والعديد من المدن، بعد أن استوعب الأساليب الجماهيرية التي ابتدعها شعب تونس العظيم، والتي كان في توهج جسد محمد البوعزيزي، ودماء شهداء تالة والقصرين، النموذج الحي لاستنهاض المشاعر، وتحفيز الجماهير، من أجل يوم الغضب الشعبي في 25 يناير. هذا اليوم الذي اندفع فيه المئات من الشباب والشابات لميادين وشوارع القاهرة والإسكندرية والسويس والمنصورة ، خلال ساعات في مسيرات الغضب الشعبية، وبمشاركة جماهيرية تزداد يوماً بعد يوم.
كانت المجموعات/ الكتل الشبابية الداعية، والمتواجدة في الساحات والشوارع في الأيام الأولى للانتفاضة، غير ملتزمة بالأطر الحزبية التقليدية. بل إن جزءاً أساسياً منها، تأسس خلال مساهماته الفعلية في النضال الاجتماعي والمطلبي لقطاعات واسعة من العمال والكادحين «شباب 6 ابريل»، وفي فضحه لممارسات النظام القمعية الوحشية «كلنا خالد سعيد»، وفي رده على الخصخصة والنهب والفساد «التجديد الاشتراكي»، و«شباب حركة كفاية»، و«شباب التغيير». ثم توسعت المشاركات الشبابية لتشمل «شباب الإخوان والغد». ومع التطور الدراماتيكي للأحداث، خاصة على جبهة النظام، فقد شهدنا هجمات منظمة قام بها أركان المؤسسة الحاكمة، بدءاً من خطاب التضليل الرئاسي الذي استهدف مشاعر المواطن، مروراً بحملة «التنظيف» الحزبية التي طالت وزارة أحمد نظيف، وإسقاط «التوريث» من المرحلة الراهنة، وصولاً إلى تعيين رجل النظام عمر سليمان، مسؤول الملفات الحساسة في حقبة مبارك كنائب للرئيس. وبتعيين سليمان، تبدأ مرحلة حاسمة في معركة «كسر العظم» بين شعب مصر المنتفض، ومؤسسات النظام المترنحة.
في أبرز محطات المواجهة الجديدة، يمكن للمتابع ملاحظة الجهد المبذول لمحاولة اختراق جبهة المقاومة الجماهيرية الواسعة، عبر فتح خطوط اتصال مع مجموعة من القوى السياسية التقليدية، التي عاشت وتكلست في مواقف نقدية خجولة لممارسات النظام، الذي حافظ على وجودها الشكلي لتزيين «ديمقراطيته». كما لعب نائب الرئيس، رجل المهمات الحساسة، والخبير في شؤون التفاوض، دوراً في صناعة لجنة «طريفة»!، من شخصيات لعب بعضها دوراً في الحياة السياسية المصرية، والبعض الآخر عرفته مراكز البحوث والجامعات الأمريكية، وقلة من المثقفين الوطنيين. هذه اللجنة هي التي حملت اسم «لجنة الحكماء»!. وقد حاول بعض أعضائها أن ينصب من نفسه مرشداً وموجهاً للجماهير المنتفضة في الميادين والشوارع من أجل تمييع التحركات وتنفيس حالة الغضب المستعر للوصول إلى تراجعات خطيرة في مسار الانتفاضة. لكن هذه اللجنة ماتت في الأيام الأولى لولادتها، لأن الملايين المحتشدة والغاضبة أسقطت شرعيتها، لكونها الجهة الوحيدة التي تتحدث عن نفسها، وهي القادرة على تسمية قياداتها الحقيقية.
لكن مهارة رجل المفاوضات، تطلبت إعادة الحياة لهياكل سياسية، لم تكن طرفاً في تفجير الانتفاضة المجيدة، من خلال «استدعائها» لجلسة حوارات، استلزم إخراجها وجود مفاجأة من العيار الثقيل بدعوة «جماعة الإخوان المسلمين» المحظورة للمشاركة فيها. حسابات قيادة الجماعة انطلقت من مصلحة فئوية خاصة، لأنها المرة الأولى منذ عقود، يتم الاعتراف الرسمي بشرعية وجودها، وهذا ما انعكس بخلاف واضح داخل قيادة الجماعة حول الحوار مع النظام الذي تدعو قوى الانتفاضة الباسلة لإسقاطه. وكما كان إعلان نعي لجنة «الحكماء»، جاء تلاشي تلك الحوارات، التي أراد النظام من خلالها، توصيف تحرك الملايين لإسقاط النظام ورموزه ومؤسساته، على كونه «أزمة» تتطلب معالجات سطحية وشكلية، تبقي على النظام ونهجه. وكما اضمحلت كل تلك الأشكال والمحاولات، ستتندر الجماهير على فهلوة الإجراءات الأخيرة «الرشى» كما أعلنتها حكومة الجنرال احمد شفيق. لقد سقطت كل تلك المحاولات للالتفاف على مطالب المنتفضين، أمام الصلابة الفولاذية لقوى التحرك، التي تشدد على مطلبها التغييري الشامل، بعيداً عن أنصاف أو أرباع الحلول. لأن صاحب الحق لا يفاوض على حقه، بمقدار ما يقاتل على كل الجبهات من أجل انتزاعه.
مع انتقال الانتفاضة من أيام الغضب والتحدي التي واجه فيها أبناء الانتفاضة المليونية، بلطجية وقتلة النظام، والخيول والجمال والسفاحين المجرمين، الذين حاولوا بوحشية منفلتة من كل السلوك الإنساني، تحطيم التواجد الجماهيري، الذي ازداد تمسكاً بمشروعية تحركه وأهدافه. إلى أحد الشهداء، وأسبوع الصمود الذي حمل دلالات جدية ليس على التشبث بالأهداف، بل على اتساع المشاركات النقابية البارزة «الفنانين والأدباء،، الصحفيين، أساتذة الجامعات، سلك القضاء»، وعلى الانتقال من شكل الاحتجاجات اليومية بميدان التحرير/ ميدان الشهداء، إلى النقلة النوعية الضرورية، وهي التحرك الفاعل والهادف، خارج الدائرة المغلقة «الميدان» إلى فضاء أوسع، أكثر فعالية وتأثيراً على مجريات الأحداث. إن البحث والعمل على تحقيق عصيان مدني، يرتبط بتحركات ضاغطة على مؤسسات النظام الرسمية، سينقل مطالب المنتفضين إلى دائرة الفعل المباشر، وسيكون الامتحان الحقيقي لمعرفة موقف القوات المسلحة. هذا الموقف الذي يشدد البعض على «حياديته»! لكن تطبيقاته على الأرض، تؤكد أنه مازال- وحتى إشعار آخر- ابن المؤسسة الرسمية وحاميها. وهذا ليس بمستغرب، بعد التغييرات التي أصابت قيادة هذه القوات بعلاقتها مع البنتاغون «تمويلاً وتدريباً وتسليحاً». إن جسم هذه القوات، وصغار الرتب العسكرية فيها هم من أبناء وأخوة تلك الجموع الغاضبة التي تملأ شوارع وميادين المدن. ومع تسارع خطوات التغيير المرتقبة ميدانياً، سنكون أمام أشكال التعاطي المحتملة، وربما أمام الانحيازات التاريخية.
إن دماء المئات من الشهداء، وآلاف الجرحى، وصمود الملايين في الشوارع والساحات، من أجل تحقيق المطالب المشروعة، لن تذهب هباءً، لأنها بدأت عملياً ببناء مصر الحرة ، السيدة، «أم الدنيا»، العائدة لأمتها ووطنها العربي الكبير. لأن عودة مصر لدورها القومي التاريخي، هو إعادة إحياءٍ لنهضة أمة بكاملها.