الليبرالية الاقتصادية سبب الأزمة الأوروبية
بات واضحا أن البلدان الأوروبية الداخلة في دوار الأزمة الاقتصادية، تحصد نتائج سياساتها الليبرالية الاقتصادية، التي اتبعتها على مدى سنوات من خلال الأزمة الاقتصادية السائدة فيها اليوم، والتي أخذت تتفاقم منذ العام 2008، على إثر الأزمة الاقتصادية الدورية للرأسمالية.
وتعتمد الليبرالية الاقتصادية على مبدأ النزوع نحو توظيف الأموال، الذي لا يرتبط بالإنتاج الحقيقي للخيرات المادية، سواء أكان في الاقتصاد الوهمي للبورصات وسوق الأوراق المالية، أو في الاقتصاد غير الحقيقي كقطاعات العقارات والخدمات وحتى السياحة إلى حد ما، وذلك على حساب الاقتصاد المنتج من صناعة وزراعة، ما يخلق بدوره تشوهاً في الاقتصاد ويجعله مكشوفا أمام الهزات الاقتصادية.
وضربت الأزمة في البدء المؤسسات المالية المرتبطة بقطاع العقارات وانسحبت من ثم على باقي الفروع، مما تسبب بمعدلات بطالة قياسية و راكم مديونية عالية للدولة، وأدى إلى إتباع سياسات تقشفية صارمة من الحكومات من خفض الإنفاق العام، حيث شهدت إسبانيا في هذا العام أكبر تراجع في حجم مبيعاتها منذ العام 2003، فقد انخفض في شهر نيسان/أبريل الماضي بمعدل 9.8 بالمائة بالمقارنة مع حجم مبيعاتها في نيسان/أبريل العام الماضي، ويجري الحديث حاليا عن إمكانية لجوء إسبانيا إلى خطة إنقاذ مالية على غرار اليونان والبرتغال وإيرلندا.
وطفت على سطح الاقتصاد الإسباني خلال الأيام الماضية الأزمة الكبيرة، التي تعاني منها مجموعة «بانكيا» المصرفية، وهي تعتبر رابع أكبر بنك في البلاد، وتطلب من الحكومة حاليا ما قيمته 19 مليار يورو (24 مليار دولار)، وهو ما يعادل أكثر من ضعف المبلغ الذي كانت تتوقعه الحكومة.
وكانت الحكومة قد أممت المصرف «بانكيا»، الذي يضم في خزائنه 10 بالمائة من الودائع المصرفية في البلاد بداية الشهر الماضي، وهو يئن تحت وطأة أصول عقارية متعثرة بقيمة أربعين مليار يورو، وسبق للحكومة أن أنفقت 4.5 مليار يورو، وبالتالي فإن التكلفة النهائية قد تقارب 23.5 مليار يورو.
وطلب وزير الاقتصاد الإسباني لويس دي جويندوس في رسالة وجهها إلى الشعب الإسباني الغاضب من الوضع الاقتصادي للبلاد التحلي بالصبر والهدوء، وأكد أن الاتحاد النقدي الأوروبي سيدعم إسبانيا.
وقال الوزير الإسباني: «نحن نعيش حالة من التوتر وعدم الاستقرار، وهو الأسبوع الأكثر تعقيدا بسبب الانتخابات اليونانية، والحكومة تدرك بوضوح هذا الوضع الصعب ولكنها تطلب من الجميع الهدوء، هذه الرسالة التي نريد أن نوجهها، ويجب أن يعلم الجميع أننا نحظى بدعم من جميع شركائنا في الاتحاد النقدي لأوروبا وهذه هي الرسالة الرئيسية».
وقد تخطى معدل الفوائد على سندات الدين الإسبانية لأجل عشر سنوات السبعة بالمائة، وذلك لأول مرة منذ تأسيس عملة اليورو، ويأتي الارتفاع بعد أن خفضت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني تصنيف الديون الإسبانية بثلاث نقاط، نتيجة غرق المصارف الإسبانية بديونها العقارية، في حين ارتفعت الفوائد على سندات الدين الإسبانية بوتيرة قياسية، تجاوزت الاثنين بالمائة في الأشهر الستة الأخيرة، ما ينذر باحتمال اضطرار إسبانيا إلى السير في خطة إنقاذ.
ويقول خبراء إن «الأسواق ستعتقد بأن إسبانيا تلقت خطة إنقاذ، حتى لو أكدت الأخيرة بأن الخطة محصورة بالمصارف. في الوقت الحالي، تزايد الضغوط على أوروبا الجنوبية سيؤدي إلى تزايد الضغوط على البنك المركزي الأوروبي لشراء سندات الدين الإسبانية في الأسواق الموازية».
وتشير الإحصائيات إلى أن حجم ديون المصارف الإسبانية من البنك المركزي الأوروبي ارتفع ليتخطى في شهر أيار/مايو 287 مليار يورو، بعد أن كان 263 مليار يورو في نيسان/ أبريل الماضي.
وفي اليونان، وقبيل بضعة أيام من الانتخابات العامة، تبدو المنافسة على أشدها بين اليمين واليسار الراديكالي لتولي مقاليد السلطة في البلاد.
وأكد زعيم حزب اليسار الراديكالي «سيرزا» في خطاب ألقاه أثناء تجمع جماهيري لمؤيديه في العاصمة أثينا، أنه سيحافظ على اليونان في منطقة اليورو، لكنه في حال فوزه، سيعمد إلى التخلص من خطة التقشف واستبدالها بخطة أخرى تعتمد على النمو.
وفيما طمأن الكيس سيبرايس مناصريه أنه سيعيد كافة الإعانات الاجتماعية، والحد الأدنى للأجور، وسيحارب الفساد، يستعد أنطونيس ساماراس زعيم حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ لاقتناص الفوز من منافسه الرئيسي سيريزا.
وفي إطار جهوده لجذب الناخبين المناهضين لحزمة الإنقاذ، تعهد ساماراس بوقف إجراءات خفض النفقات لتحقيق الأهداف المالية التي حددتها الجهات المانحة الدولية للبلاد، وأكد بدلا من ذلك أنه سيعمل على إنعاش الاقتصاد عن طريق خفض الضرائب والقضاء على الفساد فى القطاع العام.
ويتوجه نحو10 ملايين يوناني الأحد المقبل إلى صناديق الاقتراع في انتخابات عامة هي الثانية خلال أقل من شهرين، نتيجة فشل زعماء الأحزاب السياسية التي فازت في انتخابات 6 من أيار/مايو الماضي في تشكيل حكومة ائتلافية.
ونتج عن لقاء الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند برئيس الوزراء الايطالي ماريو مونتي في العاصمة الايطالية روما تقارب كبير في وجهات النظر في إطار المباحثات التي تجريها دول منطقة اليورو لمواجهة أزمة الديون المتفاقمة.
وأفادت مصادر مطلعة أن الجانبين ناقشا ضرورة إصدار سندات خزينة أوروبية على المدى المتوسط بصورة مشتركة، وهو ما تبدي ألمانيا تحفظا بشأنه حتى اللحظة.
واقترح هولاند توسيع صلاحيات آلية الاستقرار الأوروبية الجاري نقاشها، لكي تتمكن من إعادة رسملة المصارف التي تعاني من عجز في بعض الدول لاسيما في إسبانيا، وتأتي هذه التحركات قبيل القمة الرباعية المقبلة التي ستعقد في إيطاليا في الثاني والعشرين من حزيران/يونيو الجاري.
ويستنتج مما يمر به الاقتصاد العالمي أن الأزمة الهيكلية متعددة الأوجه، والتي تهز أركان الاقتصاد الأوروبي بشكل أساسي، تزيد تناقضات المجتمعات الأوروبية المعاصرة تفاقماً، وأهمها التناقض بين الاحتكارات الكبيرة ومصالح الجماهير العاملة، والتناقضات ما بين المراكز الاحتكارية والدول الأوروبية، وكذلك التناقض بين المراكز الاحتكارية ودول الأطراف وشعوبها.
وتتفاقم الصراعات بين المراكز الاحتكارية والدول الكبرى، بما فيها ما يسمى بالدول الصاعدة (النامية)، من أجل السيطرة على المناطق الحيوية في العالم، وهذا ما يظهر جليا في أفريقيا من خلال تقسيم السودان والصراع على القرن الأفريقي و الأحداث التي شهدتها عدد من بعض دول غرب أفريقيا: مالي، نيجيريا، غينيا وغيرها.
ويجري الصراع المكشوف من أجل السيطرة على المنطقة الممتدة من شرقي البحر الأبيض المتوسط إلى محيط بحر قزوين، وتتواجه في هذه المنطقة المصالح الأمريكية والأوروبية مع مصالح روسيا والصين.
ويأتي موقف روسيا والصين في التصدي للمشاريع التوسعية الأمريكية في منطقة شرق المتوسط وبحر قزوين، من صميم المصالح الحيوية لهاتين الدولتين، والحفاظ على مواقعهما على الساحة الدولية، هذه المواقع التي تتعرض باستمرار إلى محاولات ضعضعة من المشاريع الأمريكية الساعية إلى تقليص هذه المواقع إلى أقصى حد، من أجل استعادة الهيمنة الأمريكية شبه الكاملة على العالم، كما كان عليه الحال، في التسعينيات من القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية.