ربيع الديمقراطية العربي
ليست الانتفاضة التونسية سوى النتيجة الطبيعية لفشل نموذج العولمة والمأزق الذي يؤثّر على العالم كلّه. فما أن ينفتح الاقتصاد أمام رؤوس المال الأجنبية ويتمّ تسليم الاقتصاد المحلي والخدمات لقوى السوق حتّى يتقلّص دور الدولة آلياً ويقتصر على حماية النموذج نفسه. بالتالي، سواءٌ في تونس أم في غيرها من بلدان العالم النامي، يؤدّي ذلك إلى تناقضٍ بين مصالح الشعب والطبقة التي تكوّنت لحماية رؤوس المال الأجنبية.
في البلدان العربية، تمثّل نموذج العولمة في التخلّي عن الطابع العربي الإسلامي للدولة، المكلّفة بتحقيق رفاه مجتمعها. وقد أدّى إلغاء مفهوم الدولة القومية الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية وحركة التحرّر التي استندت شرعيتها إلى مفهوم تقدّم مواطنيها ورفاههم. كما أدّى هذا الإلغاء إلى إلغاء الطموحات الاشتراكية للشعب، المستندة إلى رغبتها في دولة رعايةٍ وتقديم الخدمات العامة.
إنّ نموذج العولمة المطبّق في العالم الثالث، بالقوّة أحياناً، كما في العراق، أو بالضغط الاقتصادي، كما في مصر أو في إندونيسيا، أو بتبنيه في البلدان الغنية، كالبلدان المنتجة للنفط، قد أدّى في كلّ مكانٍ إلى نشوء طبقة كمبرادورية، خاضعة أو مشاركة إرادياً في إدماج الاقتصادات الوطنية في الاقتصاد العالمي، ما أدّى إلى دولةٍ دورها الوحيد هو دور الشرطي وحماية الأنظمة الكمبرادورية والوضع القائم من أجل مصالح رأس المال الأجنبي والمحلي فقط. في موازاة ذلك، يفيد هذا النموذج في كلّ مكان، بما في ذلك في الاقتصادات المتطوّرة، في إثراء الأثرياء وإفقار الطبقة الوسطى وتهميش الفقراء واستعبادهم.
في تونس نفسها، نجم وهم أنّ هذا النموذج كان يبدو فعّالاً على نحوٍ جيّدٍ من الطابع التسلطي للنظام الحاكم في البلاد منذ استقلالها. غير أنّ النتيجة كانت، كما في الأمكنة الأخرى، شعباً فقيراً ومهمّشاً اقتصادياً وسياسياً ودولةً بوليسيةً تحكمها طبقةٌ حاكمةٌ تزداد ثراءً، لا تأبه برفاه السكّان وتقمع بقوّةٍ كلّ انشقاقٍ باسم قوى السوق. لكنّ المجتمع في عصرنا الحديث ليس منظمةً يمكن قمعها إلى ما لا نهاية ولا فكراً يمكن منعه، بل هو كائنٌ حيٌّ لا يمكن التحكّم به إلاّ بذاته.
إذا كانت الطبقات المتعلّمة تمتّعت في الماضي بخيار الهجرة إلى بلدانٍ أخرى والمشاركة في تنميتها، فقد حدّت الأزمة الاقتصادية العالمية وركود الاقتصادات الغربية والبلدان الحليفة من هذه الإمكانية. ونتيجة هذا الوضع هو جيشٌ من الشبّان العاطلين عن العمل، المتعلّمين والمؤهّلين تقنياً في البلدان النامية. هؤلاء هم في العادة بناة الاقتصاد القومي، حرّاس رفاه مجتمعاتهم ويطمحون إلى تحقيق ذواتهم. إنّ الوضع الاقتصادي والسياسي الحالي في جميع البلدان العربية يدفع أولئك الشباب، الذين يعتقدون أنّ من حقّهم العيش مثل أشباههم في العالم، إلى التمرّد وأحياناً إلى اليأس.
بعد العام 1973، استند الحكّام العرب إلى انتصارهم واعتقدوا أنّهم يستطيعون الانفتاح على الغرب وأنّ هذه العملية ستجلب السلام والازدهار. لبرلة السادات للاقتصاد واستقبال الشركات الأمريكية والغربية من أجل الاستثمار قد عيّنت نهاية دولة الرعاية في العالم العربي. ومنذ ذلك الحين، تمّ التخلّي عن حلم التنمية الذاتية وإحلال انفتاح أسواق جميع البلدان العربية بدرجاتٍ متفاوتة أمام المصالح الأجنبية محلّه. وأصبحت سياسة اللبرلة هذه شرطاً للحصول على البركة الأمريكية، بدايةً بالريغانية والتاتشرية، ثمّ عبر المفاوضات التجاريةالعالمية وسياسات البنك الدولي في التكييف الهيكلي.
وبما أنّ العراق قد رفض إلى حدٍّ ما الاندماج في الاقتصاد العالمي النيوليبرالي، فقد اضطرّ بالغزو والقوّة وقوانين بريمر إلى خصخصة صناعته النفطية وإخضاع مستقبل العراق للشركات الأجنبية. بهدف فتح الاقتصاد العراقي وإزالة أيّ عقبةٍ تعترض القوى الخارجية، الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية، يلجأ الاحتلال إلى التدمير المادّي لبنى العراق التحتية وموارده البشرية، مدمّراً بذلك قدرته على التطوّر الذاتي. ومثلما أظهرت التجربة العراقية، لا تهدف رؤوس المال الأجنبية إلى تحقيق تطويرٍ حقيقيٍّ للاقتصاد، بل إلى تدمير كلّ القدرات الموجودة القابلة لإتمام عمليات التطوّر الذاتي. في الطور المالي للرأسمالية والإمبريالية بإدارة الولايات المتحدة، يكون العالم الثالث آخر من يستفيد من تطوّرات العالم وأوّل من يدفع ثمن الأزمات الرأسمالية. وحتّى إذا كانت مؤسسات دبيّ المالية تقدّم بوصفها مثاليةً من وجهة نظر تلك السياسات، فقد كانت في مواجهة الأزمة المالية مهدّدةً بالإفلاس لولا تدخّل إماراتٍ أخرى لنجدتها.
اليوم، أثبتت جميع أوهام التقدّم التي حرّكت الأجيال السابقة منذ العام 1973 (..) أنّها غير مثمرة وغير قابلة للتطبيق، على الرغم من الكفاح العنيد الذي شنّته التيارات السياسية العربية من أجل هذه المثُل. انهار النموذج الاشتراكي؛ ولم تعد الوحدة العربية على أجندة الحكومات؛ كما لم يقدّم شعار الإسلام هو الحلّ إلاّ الانقسام والطائفية كما في العراق، ولم توقف مبادرة السلام الأمريكي في فلسطين «إسرائيل»، كما لم يحمل الاندماج وانفتاح الأسواق المحلية أمام الاقتصاد الرأسمالي استثماراتٍ أو حلولاً للعاطلين عن العمل والفقراء. لم يسمح ذلك للشعوب بممارسة حقّها الشرعي في المشاركة بحرّية في القضايا العامة لبلدانها، ولا في الاستفادة من ثروة أراضيها ومن الاقتصاد القومي.
على الرغم من أنّ الشباب العربي لا يعارض بالضرورة الأحلام الكبيرة التي راودت الأجيال السابقة، والتي لا تزال تدافع عنها مختلف التيارات السياسية المحلية، وعلى الرغم من أنّ تلك التيارات تواصل ممارسة نفوذها، فإنّهم يريدون التغيير الفوري. لقد خاب أمل الجيل الجديد. وفي تونس، استلمت بيدها مصيرها وهي تريد التغيير الآن، وتريده تغييراً حقيقياً. وبوصف شعب تونس شعباً من بلدٍ عربيٍّ يعيش حال تبادلٍ دائمٍ مع بيئته المتوسّطية، فقد أدرك أنّ نموذج العولمة هو مجرّد تطاول. لم يتمّ تحقيق أيّ وعدٍ في الرفاه والتنمية، في الحرية أو الديمقراطية؛ يختصر النظام في القمع والفساد المعمم والسرقة: طبقة كمبرادورية حاكمة، دولة بوليسية، إخضاع البلدان للسياسات الإمبريالية ومصالحها.
إنّ انهيار بن علي وحكومته ليس فقط انهيار نظامٍ تسلّطي، بل انهيار نموذج العولمة الرأسمالية والإمبريالية المالية في جميع بلدان العالم الثالث. وفي التحليل العميق، لا يختلف الوضع في بلدانٍ عربيةٍ أخرى، بما فيها البلدان المنتجة للنفط. ربّما يتأثّر الوضع بالمكوّنات الاقتصادية والجغرافية والديموغرافية المحلية في هذا البلد أو ذاك، لكنّها تعلم جميعاً أنّ الاندماج في العولمة النيوليبرالية لم ولن تقدّم تقدّماً ولا تنميةً، بل إثراء البعض وإفقار الأغلبية وكذلك التخلّي عن المصلحة القومية لصالح مصلحة الرأسمالية العالمية.
نحن متأكّدون من أنّ جميع الأنظمة العربية، التي تتشاطر الوضع نفسه لكن بمكوّناتٍ مختلفة، قد تزعزعت لأنّ الوضع نفسه يؤدّي إلى النتائج نفسها. كما أنّنا متأكّدون من أنّ جميع الأنظمة العربية، كلّ الإمبرياليين، كلّ الثوريين يقومون الآن بدراسة أسباب نجاح التجربة التونسية. الجميع يتساءلون لماذا نجح التوانسة في طرد حكومتهم في حين فشلت انتفاضاتٌ مشابهةٌ أخرى. في رأينا، هنالك الوضع نفسه والرغبة عينها في التغيير والتخلّص من هذا النموذج في جميع أرجاء العالم العربي؛ الفارق الوحيد هو أنّ التمرّد التونسي كان عفوياً وغير إيديولوجي. لم يكن نزاعاً بين منظّمةٍ سياسيةٍ وأخرى، بل نزاعاً أطلقه الضمير وعفوية الشباب الذين أدركوا أنّ النزاع هو بين طبقةٍ مسيطرة معاديةٍ للشعب والشعب ضدّ هذه الطبقة المسيطرة. إنّه تمرّد الكرامة والحرّية والديمقراطية والرفاه ضدّ نموذجٍ فاشلٍ للتنمية. وبالتجربة، ستصل بلدانٌ أخرى إلى الوضع نفسه.
وبالفعل، يكمن نجاح الظاهرة التونسية في وحدتها. لم تنجح تمرّداتٌ مشابهة، كانتفاضة الكهرباء في العراق صيف العام 2010، بسبب الانقسامات الإيديولوجية على المستوى السياسي، والتي غذّتها على نحوٍ رئيسي قوىً أجنبيةٌ لتحويل العرب عن مصالحهم الحقيقية المشتركة. في كلّ مكان، يطمح الشباب العربي إلى العيش بكرامةٍ وحرّيةٍ في ظلّ الديموقراطية والتمرّد. إنّ النزاعات الإيديولوجية، كما في العراق، تخفي مصالح الشعب الحقيقية. وتستخدم الطبقات الحاكمة تلك النزاعات الإيديولوجية والمذهبية لتبرير سياساتها وإخفاء ممارساتها الحقيقية. لكن عاجلاً أو آجلاً، سوف تغلب حقيقة النزاعات بين الطبقات الفقيرة والطبقات الحاكمة التي أثرت.
على الرغم من أنّ جميع الحكومات العربية ترتجف وأنّ مراكز صنع القرار تقدّم النصائح لحكوماتها حول سبل خنق الحركات المشابهة في مجتمعاتها، فقد أعلن الشعب العربي أنّ الثورة التونسية تمثّل الأمل؛ وقد حيّاها بوصفها مثالاً له.
نظراً للنموذج المشترك ولنفوذ البلدان الأوروبية على بعضها، فمن غير المستغرب حدوث انتفاضاتٍ متتالية عبر أوروبا في العام 1848 أو في العام 1968. وبالطريقة نفسها، ما الذي يمكن أن نتوقّعه في عالمٍ عربيٍّ يعتقد الجميع فيه أنّهم ينتمون إلى الأمّة عينها ويعيشون الشروط نفسها؟ كيف لا تؤثّر تونس على البلدان العربية الأخرى في حين أنّ جميع هذه البلدان تنتمي إلى أمّةٍ عربيةٍ قسّمتها في الأصل القوى الاستعمارية إلى دولٍ منفصلة؟
ربّما تحاول القوى المعادية للشعب التونسي احتواء الحركة لتنقذ مصالحها، وذلك عبر تغيير الوجوه، لكنّ الوضع سيبقى انفجارياً حتّى تحدث مصالحةٌ بين مصلحة الشعب والدولة التي يعيش فيها. هذا ما يدعى بالديموقراطية والاستقلال حيث يكون الشعب والدولة سادةً لحاضرهما ومستقبلهما.
هل نحن أمام عصر تجديدٍ آخر بالنسبة إلى العالم العربي؟ هل ستنجح هذه الانتفاضة في تقديم تغييرٍ حقيقي؟ هل سيمارس العرب، أخيراً، الديموقراطية الحقيقية والسيادة؟ هل ستستبق أنظمةٌ أخرى، مشابهةٌ في واقعها، نهايتها وتقرّر تغيير بنية دولها سلمياً أم أنّها ستتّحد لخنق الظاهرة التونسية وحرفها عن أهدافها؟ سيكشف المستقبل ذلك لنا، لكنّ تغيير الأشخاص لن يغيّر جذور التمرّد. ربّما بدأ التجديد العربي من تونس.
محلّلٌ سياسيٌّ عراقي
كاتبة وناشطة سياسية
أستاذ محاضرٌ في العلوم السياسية