سلطة رام الله المحتلة والزلزال التونسي... مقــاربة أوليــة
جاء التحرك العفوي للشعب التونسي، مفاجئاً للغالبية العظمى من الأنظمة والشعوب. أنظمة الغرب الاستعماري، التي ساهمت بعملية خداع طويلة عبر ماكينة إعلامية هائلة، على التسويق والإشادة بالنموذج التونسي للتنمية والحداثة، كانت قد لعبت دوراً أساسياً في التعتيم على حكم الاستبداد، والمافيا العائلية، والتهميش لملايين المواطنين. حكومات النفاق الغربي صمتت على مدى ثلاثة أسابيع، لكنها انتصرت في النهاية لمصالحها، وتخلت عن وكلائها الرسميين، في محاولة مكشوفة لركوب موجة التغيير. أما غالبية الحكومات العربية، فقد تابعت الحدث بقلق «مشروع» على كياناتها المتماهية مع حكومات تونس المتعاقبة على مدى ربع قرن، مبدية، تارة تفهمها للإرادة الشعبية بعد فرار الرئيس المخلوع، ومعلنة، بشكل موارب، خوفها على الاستقرار وأمن المواطنين! وفي كلتا الحالتين كانت شوارع العديد من المدن العربية تموج بالتحركات العفوية المؤيدة للانتفاضة التونسية، بل تعدى ذلك التأييد، لمحاولة تعميم نموذج الشهيد «محمد البوعزيزي» في حرق جسده، على بعض ساحات العواصم والمدن، على أمل أن تحرق نيران الأجساد الجديدة، هشيم البؤس والاضطهاد الممتد على مساحات واسعة من الوطن العربي.
الجماهير الفلسطينية داخل أراضي الضفة المحتلة، عاشت كباقي أبناء الأمة العربية، ارتدادات الزلزال. تجمع المئات في الشارع، للتعبير عن فرحتهم وتأييدهم للشعب الشقيق، الذي احتضن قوى المقاومة الفلسطينية بعد خروجها من بيروت. كانت مواقف الشعب الفلسطيني في كل مناطق انتشاره، تعبيراً عن الوفاء لشعب تونس العربي، الوفي، الذي تحمل الكثير، بسبب مواقفه القومية. لم تكن حالات التعبير مقتصرة على التأييد، والفخر، بانتفاضة الياسمين، بل كانت ذات دلالة على قدرة الشعب الفلسطيني، استلهام دروس تلك التجربة العظيمة. لكن اللافت لنظر المراقبين، كان التناقض الذي وقعت فيه قيادة سلطة رام الله في تعاملها مع الانتفاضة التونسية، فقد تناقلت وكالات الأنباء بياناً صادراً عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يبارك الانتفاضة ويعلن تأييده لها . لكن أحمد عبد الرحمن أحد قادة فتح/ السلطة، سارع إلى نفي صدور أي بيان/ موقف عن منظمة التحرير بشأن مباركة وتأييد الحدث التونسي، وهذا ما أشار إليه حنا عميرة مندوب حزب الشعب في اللجنة التنفيذية، حينما قال «لم نجتمع ولم نصدر بياناً».
إن الأوضاع التي يعيشها الشعب الفلسطيني داخل الضفة المحتلة، تحمل ملامح مشتركة مع الحالة التونسية التي كانت نذر أزمتها تتضح منذ عقود. إن رؤية سلام فياض الاقتصادية، حملت الكثير من التشابه مع نهج اقتصادي سارت عليه حكومات تونس المتعاقبة، لأن النهج الاقتصادي الذي ينفذ خطط «النهب» وليس التنمية، وضعته أيادي منظري «النيوليبرالية» الاقتصادية والاجتماعية، الذين يرسمون توجهات البنك الدولي، التي تعمل على ربط حياة الملايين بعجلة النهب الرأسمالية المتوحشة. ولهذا فإن معاناة المواطن الفلسطيني، تتراوح مابين قوانين واشتراطات الدول المانحة، وسياسة فرض الضرائب. ففي مقال نشره حافظ برغوتي رئيس تحرير صحيفة «الحياة الجديدة» الصادرة في رام الله المحتلة قبل أيام، ما يسلط الضوء- من داخل بنية السلطة- على الحالة الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية، لمئات الآلاف من شعبنا. يقول البرغوتي (عملياً لا نملك اقتصاداً بل اقتصاد نفقات جارية وليس اقتصاداً إنتاجياً لان الاحتلال يمنع نشوء أية صناعات إنتاجية حقيقية، ونسبة الفقر تزداد يومياً وفقاً لما قاله رئيس الوزراء يوم أمس حيث أن عدد العائلات الفقيرة التي تتقاضى مساعدات من الشؤون الاجتماعية سيرتفع من 65 ألف عائلة إلى 95 ألف عائلة. وعدد العاطلين عن العمل في الأراضي الفلسطينية وصل إلى 218 ألفاً وهذا يعني أننا قبل نهاية هذا العام إما على موعد مع الحرية أو موعد مع الجوع). وللتحديد، يمكننا التأكيد بأن شعبنا ليس على موعد مع الحرية، فانتزاعها، ومن ثم امتلاكها، ليس عبر المفاوضات المباشرة، ومحادثات التقارب، وتقديم التنازلات المتتالية، بل عبر المقاومة وفي المقدمة منها، الكفاح المسلح.
لكن الواضح أن الشعب الفلسطيني يتعايش مع الجوع والقهر منذ سنوات. جوع يحرص على نشره، وتعميمه، خبراء البنك الدولي، والقطط السمان التي تسرق وتنهب كل شيء. وهذا ما كشفه تقرير نشرته مؤسسة «ترانسبيرانسي انترناشيونال» الموجودة في برلين، والتي تقوم بتحليل مستويات الفساد حسب درجة استغلال الوظائف العامة للمنفعة الشخصية، وقد احتلت السلطة الفلسطينية المرتبة 107 في قائمة الدول الفاسدة وفي المرتبة الثانية عربياً بعد العراق التي حصلت على المرتبة 137 عالمياً.
وفي فضائح التحقيقات الأخيرة- وهي ليست الأولى- ما يكشف حقيقة الخلاف على حجم المنافسة في التحكم بكل مفاتيح النهب والسمسرة. وقهر لم يفرضه الاحتلال فقط، بل تفرضه عقلية السلطة البوليسية، القمعية، التي تعمل على تكميم الأفواه، ومصادرة حرية التعبير، وملاحقة المقاتلين عبر التنسيق الأمني.
إن ملامح المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الضفة المحتلة، تحمل بعض أوجه الشبه مع ما كانت تعيشه تونس قبل منتصف الشهر الحالي، من بطالة وقهر واضطهاد. لكن الواضح أيضاً أن استلهام دروس وعِبر النموذج التونسي المميز، للعمل على ضوئه داخل أراضي السلطة، يتطلب من الحركة السياسية الفلسطينية والقوى المجتمعية، دراسة الواقع المركب الذي هي بصدد مواجهته، مما سيلقي عليها مهمات نضالية معقدة، تتطلب معرفة دقيقة بموازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، لكي تتمكن من رسم خطط عملها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحشد أوسع تفاعل شعبي معها، في مواجهة معسكر واسع من الأعداء. لأنها ستواجه قمعاً مركباً ومتداخلاً، تتوزعه العديد من القوى.