حزام العملية السياسية العراقية ناسف!
انتهت العملية العسكرية الأمريكية في العراق بعد أن خرجت من رحمها عملية سياسية استخلفتها في تحقيق ما استوجب مداورته مستقبلياً، ولأجل غير مسمى!
أكثر من تسعة أعوام مضت على انطلاقة تلك العملية السياسية وما زال الوضع العراقي برمته يعيش حالة من التأزم والاختناق والتدهور والانحطاط، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، مما يعني أن هناك خللاً جوهرياً في معادلاتها وفي أسسها وأهدافها، وبما أن لكل عملية ومهما كان نوعها، نتائج على أساسها يتم الحكم عليها بالنجاح أو الفشل، فإن مؤشرات النتائج في العملية السياسية الجارية تؤشر وباضطراد إلى أنها رفيقة دائمة للفشل المطبق!
ليس هناك زمن مفتوح لأية عملية يجري تجربة مفاعيلها باتجاه تبني ما يلزم منها أو نبذه، وإن وجد فليس لوجوده غير معنى واحد، هو دورانها بحلقة مفرغة.
إن مقياس النجاح هو تحول أهدافها إلى واقع متأصل ومجرب، وأما الفشل الحاصل فهو مستدام فيها وعليه فهو مدعاة للبحث عن البدائل التي تحل محلها.
يبدو أن جميع القوى المنضوية تحت خيمة ما يسمى بالعملية السياسية ومنذ بداية الاحتلال وحتى بداية عام 2012 حيث اكتمال سحب القوات الأمريكية من العراق وبالتالي انتهاء الوجه العسكري الشامل من عملية تحرير العراق، وجدت نفسها منساقة بالكامل لنهج المضاربة والمغالبة كبديل عن نهج المغانمة والمشاركة والتي شرعتها شريعة المحاصصة السياسية طائفياً واثنياً ومناطقياً، برغم أن المحاصصة ما زالت هي القاسم المشترك الأعظم لشبح الدولة القائم وفي الحالتين، لكن تلك المحاصصة تتآكل تدريجيا لمصلحة صعود نجم الغانم الأكبر، وبالتالي الرابح الأكبر، مما يجعل الأمر وكأنه عودة للصيغة النمطية للسلطة في الدولة المنحلة، وبفارق وحيد هو وسيلة التحقق، فالوسيلة هنا أدوات العملية السياسية المتوافق عليها من جميع الفرقاء، من دستور وانتخابات ومفوضيات مستقلة، في دولة فدرالية وبحكم برلماني، أما الوسيلة في الدولة المنحلة فكانت الانقلاب العسكري في دولة الحكم الشمولي!
الرابح الأكبر بين المتغانمين يواجه أزمة مأزقية مستفحلة مع من يفترض بهم شركاء له، وهو في محاججاته معهم يرفع الدستور كقميص عثمان بوجههم وبوجه اتهاماتهم له بالفردية والديكتاتورية، ويردد على أسماعهم انه باتجاه بناء دولة القانون، التي تتسمى كتلته النيابية بالمسمى ذاته، وهو نفسه وفي أماكن أخرى يعلن بأن الدستور ذاته بحاجة لتعديل وتهذيب لينسجم مع انبثاق دولة عصرية متماسكة تستطيع مجاراة التحديات التي تحيط بها، فلا يصح والكلام له أن تكون الأطراف أقوى من المركز ولا يصح أن تكون الدولة مهلهلة بأقاليم غير مقيدة بشروط والتزامات الدولة المركزية، الحقيقة أن في منطقه هذا منطق، ولكنه نفسه من شارك بتمرير هذا المنطق بذريعة الخشية من عودة الحكم الحديدي الذي يفرز حتما من يجلس على هرمه وبصلاحيات حاكم بحكم الاكثرية البرلمانية، ليعيد إنتاج حكمه وحكم حزبه مع كل دورة إعادة، وهو نفسه من طبل للاستفتاء على الدستور وإقراره، برغم لا شرعية تمريره، وبحسب الشروط التي نص عليها قانون الاستفتاء نفسه!
ياترى هل سيكون موقفه هذا هو نفسه إزاء علاوي إذا فعل كما يفعل هو الآن ؟ أم أن العلة تكمن في من يقود السلطة لأن في القيادة مغنم لا يتوافر للمغتنمين الآخرين، ألا وهو القدرة على إعادة إنتاج المغانم والتحكم بمغانم الآخرين، خاصة وأن السلطة في عراق اليوم هي من تبني الدولة وليس العكس؟
الهدف غير المعلن للرابح الأول هو جعل حزب الدعوة الحزب الحاكم والدائم في السلطة عبر الانتخابات أو التوافقات وبكل الوسائل المتاحة، المضروبة وغير المضروبة، وللفوز بذلك، لابد من استخدام ثقل السلطة من أموال وأعمال وأجهزة أمنية وقضائية واعلامية تجر له المصوتين للحصول على أكبر حصة صوتية مقررة لحكم البلاد، وعلى هذا الطريق توجب تقزيم أحزاب الخندق الطائفي الواحد، وجعلها تسير بفلك سلطة الدعوة وبتوافقات مرجعية عراقية إيرانية، مع عدم قطع حبال الود تجاه الأمريكان ومحاولة للتوفيق بين إيجابية العلائق بين الطرفين، وإظهار حكومة العراق كطرف محايد يجاري جاراً قوياً ومؤثراً، بنفس الوقت الذي يقيم فيه علاقات شراكة مع الجانب الامريكي، ومن المنطلق نفسه ينطلق مالك حزب الدعوة لتشتيت القوى السياسية الفاعلة في الجانب السني، ووضعها دائماً في ظل التخندقات المكوناتية، وعلى الصعيد الكردي يعمل لاحتواء تعجرف المتشددين بينهم بطول بال وتأنٍّ بغرض تهذيب تجاوزاتهم، ومن ثم الاستثمار بخلافاتهم وتسليط الضغط الإيراني لابتزازهم وتراجعهم، وهذا كله يحدث الآن حيث نتلمس التباين بين موقفي الطالباني والبرزاني إزاء حكومة المالكي، ومن ثم تكرار التعنيف المبطن من قبل المسؤولين الإيرانيين للبرزاني!
القائمة العراقية والأكراد وحتى الصدريون، متأكدون جميعاً بأن أي انتخابات قادمة وبالأوضاع القائمة التي جعلت من حزب الدعوة وقائمة دولة القانون التابعة له يسيطرون على مجمل المفاصل الاجرائية في السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي تعاني أصلاً من التداخل وعدم الاستقلال، حتى أنه لم يتبقّ منها أية جهة مستقلة بالمعنى المهني والسياسي والإداري، من مجلس القضاء الأعلى إلى هيئة النزاهة إلى الإعلام إلى مفوضية الانتخابات والآن تدور الدوائر حول البنك المركزي لجعله مرتبطاً بمكتب رئيس الوزراء، سوف تعيد إنتاج سلطة حزب الدعوة وبشكل أقوى مما كانت عليه الحال في الدورة الماضية!
إن تفاعلات المتغيرات الإقليمية والدولية وتأثيراتها المباشرة على الساحة العراقية ساهمت بتجلٍّ فاقع للصراعات المشتدة بالسر والعلن بين فرقاء العملية السياسية، فعلاوي والهاشمي ربطا رفضهما للتهميش وخشيتهما من الإفلاس التام لاحقاً، بتحالف القوى الاقليمية الطائفية، تركيا ودول الخليج، الداعية لتفكيك التحالف الإيراني السوري من خلال إسقاط نظام الأسد بواسطة الاستثمار بالحراك الشعبي المعارض فيها وبدفع حلف الناتو لحسم الأمر على غرار ما جرى في ليبيا، وهو بذلك حليف لتركيا ومساعيها ومناوئ لإيران والمالكي الذي يجاري الموقف الإيراني بشأن سورية، وعلى المنحى نفسه اشتركت وتخاصمت مواقف قوى العملية السياسية من مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بغداد، أما البرزاني فقد تميز عن الطالباني بانخراطه شبه العلني بالتحالف الداعي لإسقاط نظام الأسد ليتوج تناغمه مع السياسة التركية بخصوص الموقف من حزب العمال ومن الانفتاح غير المسبوق اقتصاديا على الشركات التركية، وصولا إلى السعي للحصول على موافقة تركية لمد أنبوب كردستاني عبر أراضيها لغرض تصدير النفط خارج نطاق سيطرة حكومة بغداد!
لم يبقَ غير الصدريين كمنافسين أقوياء داخل التحالف الوطني الذي تبنى ترشيح المالكي بعد تقزم دور المجلس الأعلى وحزب الفضيلة، وللتيار 40 نائبا في البرلمان وكانت له مواجهات حامية مع حكومة المالكي الاولى لكنه عاد واتسق معها طائفيا في الانتخابات الأخيرة، ودوافعه الانتقادية المباشرة والقوية للمالكي نابعة من خشيته على شعبيته التي قد تتصدع أو تتراجع إزاء طغيان هيمنة حزب الدعوة على السلطة وعلى المتعاملين معها من الأهالي وخاصة في المناطق الشيعية، فتحميل المالكي مسؤولية الإخفاقات القائمة وفضح المحسوبين عليه بدعوى الفساد، يبقي للصدريين شيء يلوذون به أمام ناخبيهم هذا إذا عرفنا بأن هناك تطابقاً في المواقف بين الصدر والمالكي إزاء إيران وسورية والبحرين، وعليه فإن مواقف الصدر المتضامنة مع البرزاني وعلاوي لن تذهب أبعد مما هي عليه لأن المرجع الذي سيستفتيه الصدر هو المرجع نفسه الذي يشد على أيادي المالكي!
ليس المتباكون على الديمقراطية والدستور سوى متذرعين من أجل الحصول على المزيد من المكاسب وهم عازمون على تحجيم مكاسب المالكي ليس حبا بالديمقراطية التي لا يعرفونها مثلما لا يعرفها غريمهم، لأنهم أنفسهم عناوين للتفرد وحب السلطة ومغانمها، والرابح الأكبر بدوره لن يتنازل عن مكاسبه المكتسبة، وهو على استعداد لتجميد العمل بالدستور نفسه إذا وجد في تفسيراته ما يعين الآخرين عليه، ربما سيتوافق الفرقاء على هدنة جديدة لكنها لن تكون حلا للاستعصاء القائم والذي ختم العملية بمجملها بختم الفشل.
ومن كل ما تقدم أيضاً نستنتج أن المهندس الذي هندس العملية السياسية التي أفرزت ما أفرزته من تمزق وفتن وفوضى وفساد وإقصاء وتبعية، كان قد حزمها مسبقاً بكل تفاصيل نسفها، ليكون النسف قابلة مأذونة لتقسيم العراق، وهو المطلوب أمريكياً وإن بعد حين.
■ نشرة كنعان