الحقوقيون العرب.. وغياب فلسفة القانون..
إذا كانت فلسفة القانون هي علم الكليات المتعلقة بالقانون، أي علم أصول القانون وأسسه العامة، وإذا كانت فلسفة القانون تتناول موضوعين رئيسين هما: أصل القانون وغايته، فإن هذا يعني أن دراسة فلسفة القانون ضرورة لا بد منها لفهم كيفية صياغة النصوص القانونية و إذا كانت فلسفة القانون هي علم الكليات المتعلقة بالقانون، أي علم أصول القانون وأسسه العامة، وإذا كانت فلسفة القانون تتناول موضوعين رئيسين هما: أصل القانون وغايته، فإن هذا يعني أن دراسة فلسفة القانون ضرورة لا بد منها لفهم كيفية صياغة النصوص القانونية و

الحقوقيون العرب.. وغياب فلسفة القانون..

تبدو الأبحاث في مجال فلسفة القانون شبه غائبة عن كليات الحقوق العربية، وينصرف رأي شريحة واسعة من الأكاديميين الحقوقيين العرب إلى القول بأن فلسفة القانون علم طواه التاريخ، ولم يعد ثمة طائل من البحث فيه في ظل التطور الهائل في علم القانون، ولعل هذا الرأي يحيلنا إلى مقولة الدكتور والعالم القانوني الأمريكي «روسكو باوند» في كتابه «المدخل إلى فلسفة القانون» عام 1953م، من أن علماء القانون الأوربيين في القرن التاسع عشر كانوا يحتقرون فلسفة القانون، كنتيجة منطقية لملايين الصفحات التي أُلِفَت في القانون ونصوصه وشروحها، حتى اعتبروا أن ما أنجز في علم القانون يجعل من فلسفته أمراً لا طائل منه، ولكن هل ثمة مبررات جدية لهذه الإحالة والمقاربة؟

إذا كانت فلسفة القانون هي علم الكليات المتعلقة بالقانون، أي علم أصول القانون وأسسه العامة، وإذا كانت فلسفة القانون تتناول موضوعين رئيسين هما: أصل القانون وغايته، فإن هذا يعني أن دراسة فلسفة القانون ضرورة لا بد منها لفهم كيفية صياغة النصوص القانونية وكيفية تطبيقها بالشكل السليم لتحقيق الغاية المرجوة منها، إلا أن واقع الحال أن آلاف طلاب الحقوق يتخرجون من كلياتهم في سورية وغيرها من الدول العربية دون أن يكونوا مضطرين لقراءة صفحة واحدة في فلسفة القانون، بل إن مفاهيم هذا الفرع الهام من علم الفلسفة ومن علم القانون في الوقت نفسه تبدو شبه غائبة عن عقول الغالبية العظمى من الحقوقيين العرب.

وإذا كانت دراسة فلسفة القانون تبدو قليلة الأهمية بالنسبة لمهنة المحاماة وغيرها، لأن الإلمام بجزئيات القانون قد يكون كافياً لممارسة العمل الحقوقي، فإن الدراسة الأكاديمية والعمل البحثي يبدو ناقصاً بدون تكوين مفاهيم واضحة حول أصل القانون وغايته، وأما تجاهل فلسفة القانون من الأكاديميين الأوربيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد كان نتيجة لاستقرار مفهوم أصل القانون وغايته في العقل الحقوقي الأوروبي، إلا أن ذلك لم يكن إلا بعد آلاف الأبحاث على مدى قرنين في هذا المجال، بحيث كان اعتبار إعادة البحث في هذه المسألة أمراً لا طائل منه، اعتباراً مشروعاً بالمعنى التاريخي في ذلك الوقت، ولكن هل يتسم تجاهل فلسفة القانون في الجامعات العربية اليوم بأية مشروعية تاريخية مماثلة؟

يرتبط مفهوما أصل القانون وغايته ارتباطاً عضوياً، بمفهوم السلطة وتأسيسها النظري، ويعد الاستقرار العام في اعتبار إرادة الشعب مصدراً للقانون، وحماية الاستقرار الاجتماعي غاية له في أوروبا، مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بمفاهيم العقد الاجتماعي والديمقراطية ومفاهيم الحداثة الأوروبية بوجه عام، وقد انتقل هذا التأسيس النظري للسلطة إلى الدول العربية بعد استقلالها وانتقلت معه نصوص القوانين الأوروبية والفرنسية على وجه الخصوص، حاملة معها تأسيسها النظري وفلسفتها الحقوقية، وهكذا أصبحت إرادة الشعب مصدر القانون في أغلب الدول العربية على المستوى النظري، إلا أن آليات تأسيس السلطة ومفهومها في وعي الإنسان العربي لم تتغير، وبقي القانون يعني إرادة السلطة المطلقة في الوعي العربي، وأصبحت جميع الآليات الديمقراطية لتأسيس السلطة وتشريع القوانين، إجراءات شكلية فارغة من أي مضمون فعلي، وترافق ذلك مع اعتناق الحقوقيون العرب لمفاهيم فلسفة القانون الغربية، واعتبارها في الوعي واللاوعي نهاية فلسفة القانون، وأصبح من غير الممكن بالنسبة لأغلبهم تقديم إضافات في هذا المجال.

يرتبط تطور فلسفة القانون بدراسة العلاقة الجدلية بين نصوص القانون وميدان تطبيقه، أي المجتمع في إطار حركته لإنتاج القوانين التي تحكمه، وعندما تكون حركة المجتمع معزولة عن إنتاج القوانين يصبح من المستحل البحث في فلسفة القانون في ظل مفاهيم تعتبر هذا المجتمع مصدر القانون والشرعية، وبهذا المعنى يمكن فهم غياب فلسفة القانون عن الفكر الحقوقي العربي، بوصفها جزءاً من الانقطاع بين المصدر التاريخي للقوانين العربية الراهنة والمؤسسات التي تقرها وتطبقها من جهة، وبين هذا المصدر والمجتمع العربي ميدان تطبيق هذه القوانين من جهة أخرى.

يمكن القول إنه إذا كان تجاهل فلسفة القانون في الأكاديميات الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر، ناتجاً عن آلاف الأبحاث في علم القانون، وعن استقرار مفهومٍ محددٍ لأصله وغايته في العقل الحقوقي الأوروبي، مما يعطي هذا التجاهل مشروعية تاريخية مرحلية، فإن تجاهل فلسفة القانون في الأكاديميات العربية، ناتجٌ عن غياب الأبحاث الأصيلة في علم القانون بأغلب فروعه، وعن غياب أي مفهوم مرتبط بالواقع العربي لمفاهيم السلطة وأصل القانون وغايته، مما يجعل هذا التجاهل حلقة من حلقات الأزمة الحقوقية العربية، وتأكيداً جديداً على أهمية ارتباط نصوص القانون بمجمل الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السياسية التي يعيشها المجتمع الذي ينظمه هذا القانون.