الفساد وفق وصفة «الديمقراطية» الأمريكية
مما يثير السخرية، أن نظام الفساد الشامل الذي تشكل في العراق، عقب سقوط النظام الفاشي على يد أسياده الأمريكان، كان نتاج قوى أدعت المظلومية، وبزوغ فجر جديد لبناء عراق «يابان الشرق الأوسط»، على أنقاض النظام الدكتاتوري السابق.
وكانت النتيجة إقامة نظام محاصصة سرق إيرادات العراق التي بلغت، حتى عام 2013، 750 مليار دولار، كانت حصة الشعب العراقي منها الفقر والجوع والبطالة والتشرد والقتل.
نشرت الصحف العراقية، خلال العامين المنصرمين، معلومات موثقة، نقلاً عن مصادر رسمية من بينها لجنة النزاهة، تبيِّن حجم كارثة الفساد التي تنخر بنية «دولة الديمقراطية المستوردة»، وهي معلومات وأرقام تقلُّ كثيراً عن الحجم الحقيقي للفساد المستشري فيها. فقد كشف ؤكبار في وزارة الداخلية عن 26 ألف اسم وهمي بحماية المنشآت الحيوية في العراق، إحدى أهم مؤسسات الجهاز العسكري.
وتجاوز عدد منتسبي القوى الأمنية والجيش في العراق 300 ألف منتسب، إلا أن 70 ألفاً منهم غير متواجدين، إلا في سجلات المرتبات! و964 منتسباً يحملون رتبة ضابط، من دون وجود ما يشير إلى تخرجهم من كليات أو معاهد عسكرية. و4 آلاف ضابط زوَّروا الوثائق التي منحوا الرتبة على أساسها.
أما عن منح الرتب العسكرية العليا، فحدِّث ولا حرج. علماً أن أخطر شكل من أشكال الفساد المستشري في القوات المسلحة، هو ذلك الذي يجبر الشاب الفقير، والمعطَّل عن العمل، على الاقتراض ليدفع رشوة التطوع في الجيش والشرطة، والتي تجاوزت الألف دولار، إضافة إلى دفع نسبة مئوية عالية من مرتبات سنة كاملة، (تُقتل أعداد كبيرة منهم بأعمالٍ إرهابية، وهم يقفون في طابور التطوع!! بهدف الحصول على مرتب مضمون ينقذهم من الجوع).
إن صورة الفساد في المؤسسة العسكرية يؤشِّر إلى أحد أبرز العوامل التي جعلت من يد القوى الإرهابية الآثمة طليقة على طول البلاد وعرضها. والفساد في القوات المسلحة العراقية لا يقتصر على بنيتها البشرية فحسب، بل يمتد إلى السلاح والتسليح والصفقات المشبوهة والأسلحة الفاسدة (جهاز كشف المتفجرات مثال صارخ عن ذلك)، والعمولات وسرقة المليارات. ناهيكم عن تحكم المحتل الأمريكي، حتى اللحظة الراهنة، بشروط ومواصفات وحجم ومصادر تسليح الجيش العراقي.
وإذا كان الفساد مستشرياً إلى هذا المستوى المريع، في أخطر مؤسسة دفاعية وأمنية، فيمكن ببساطة تصور حجمه الكارثي على الصعيد الإداري والمالي (رواتب وامتيازات ومخصصات، وصفقات أعضاء البرلمان والرئاسات الثلاث مثالاً). ولم تسلم من الفساد حتى المؤسسات التي يفترض أن تتصف بالإنسانية والأمانة، كمؤسسات الشهداء والمفصولين السياسيين، ومنظمات المجتمع المدني التي تم الكشف عن نسبة فساد 25% حالات مزورة من مجموع الذين حصلوا على حقوق الفصل السياسي، وأن 90% من منظمات المجتمع المدني تعاني من مظاهر السرقة والتحايل.
اليوم، وفي ظل نظام فاسد كهذا، تجري عملية عسكرية مباشرة ضد «داعش» الإرهابية وأخواتها. وبالتالي، يمكن منطقياً الاستنتاج باستحالة القضاء على الإرهاب بجسمٍ عسكري غير سليم، يفتقد إلى البنية الوطنية، وأساسها الخدمة الوطنية الإلزامية والمهنية العسكرية وشفافية صفقات التسليح، وإجراءات سياسية اجتماعية اقتصادية ديمقراطية بحق، تفتح طريق التطور السلمي أمام المجتمع، وتحافظ على أمنه، وتضمن الدفاع عن حدود الوطن، وليس بشعارات فارغة عن حسم المعركة بأيام، وإذ بها تمتد أسابيع وشهوراً.
إن واجباً وطنياً يقع على عاتق القوى الحية في المجتمع. يتمثل بإطلاق مبادرة سياسية، متحررة من أجواء المحاصصة الفاسدة، والتهديدات الفارغة بتشكيل الأقاليم والاستقواء بالخارج. مبادرة تستند إلى حراك شعبي وطني على الأرض، تعيدُ قطار الشعب إلى سكة المسيرة الوطنية العراقية، الطامحة إلى استكمال السيادة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية. مبادرة وطنية جذرية جامعة، تتمثل بتشكيل مجلس وطني انتقالي، لمدة عام، تنبثق عنه حكومة كفاءات مهنية وطنية مستقلة، تعدُّ دستوراً يطرح على الاستفتاء العام، وتعدُّ لانتخابات نزيهة، وفق قانون انتخابي ديمقراطي عادل، وقانون أحزاب حضاري.
*منسق التيار اليساري الوطني العراقي