أوكرانيا والصراع بين المحورين
تعاني دول أساسية في الاتحاد الأوروبي، مثل (البرتغال، أيرلندا، اليونان)، من أزمات اقتصادية متفاقمة، بفعل خضوعها لاتفاقيات الوصاية مع الترويكا الأوروبية «المفوضية الأوروبية، المصرف المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي» لتبقى هذه الاقتصاديات على شفير الإفلاس.
ولتبقى هذه الدول مرهونةً، بذلك، للمراكز الأوروبية التي تعاني أصلاً من أزمة تصريف إنتاج، ما يدفعها للبحث عن عقود شراكة جديدة، تؤمِّن لها بيئات استثمارية جديدة وأسواقاً للتصريف. وعليه، فإن الدول الطرفية، المتبقية خارج فضاء اليورو، وخاصة دول أوروبا الشرقية التي لم توقع بعد عقود الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أصبحت تستشف خطر الوقوع، فيما تراه ويستمر أمامها من أزمات اقتصادية تعصف بالنصف الغربي من أوروبا.
لتتجلى هذه الرؤية واقعاً يتبدى من خلال تصدع العلاقات بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي، وقرار أرمينيا بالابتعاد عن الشراكة، لتتوجه شرقاً نحو الاتحاد الجمركي الذي تقوده روسيا، حتى جورجيا التي كانت متلهفة لتوقيع عقود الشراكة في عهد «ساكشفيلي» أعادت النظر في العلاقة مع الغرب الأوروبي..
من جديد... لماذا أوكرانيا؟
بين ضغط الأزمة الاقتصادية في المراكز الأوروبية، والصدمات التي تلقاها الاتحاد الأوروبي من دول المحيط الروسي، التابعة تاريخياً للفضاء السوفييتي السابق، (اقتصادياً. من ناحية حجم التبادلات وخطوط النقل)، تتخبط الإدارات الغربية باحثة عن مخرج، ولو مؤقت، لأزماتها التي إن لم تحل بالتوسع الاقتصادي شرقاً، حتى الحدود الروسية، فإن الأزمة سترتد إلى داخل المراكز نفسها، ما سيسمح بنقاش مستقبل منظومة الاقتصاد الأوروبي ككل، لكن هذه المرة بضغط التحركات الشعبية والنقابية الممتعضة أصلاً من سياسات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وهنا يضع الاتحاد الأوروبي نصب عينه أوكرانيا بالذات، ليضعها تحت ضغط توقيع عقود الشراكة، مفتعلاً أزمة سياسية وصلت حد المواجهات التي أخذت وجهاً دامياً في بعض محطاتها. فلماذا أوكرانيا؟؟
إلى جانب الأهمية التي تكتسبها أوكرانيا، من ناحية المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية، إضافة إلى عدد السكان الكبير، ما يجعل من أوكرانيا أرضاً خصبة لاستثمارات شركات النهب الأوروبية، فإن قادة الاتحاد الأوروبي يعولون على اختراق الخاصرة الروسية التي بدأت تسترجع نفوذها الجيوسياسي الطبيعي في محيطها الإقليمي، لتظهر كرأسمالية صاعدة بقوة وثبات نحو موقعها الذي يناسب مساحتها وثرواتها، وبالتحديد الباطنية منها، والتي تقارب ال40% من ثروات العالم، هذا الموقع الذي سيقلص نفوذ الاتحاد الأوروبي، ليدفع بالاقتصاديات الأوروبية الهشة إلى انهيارات ما تلبث أن تفعل فعل أحجار الدومينو في المنظومة بأكملها.
هذه الأهمية التي تكتسبها أوكرانيا كانت تكفي الاتحاد الأوروبي لتأجيج صراع سياسي داخلي، وصل حد الصدامات المباشرة في الميادين بين المحتجين المطالبين بالتكامل الأوروبي وعناصر الشرطة الأوكرانية، ذلك بدعمها للمعارضة الأوكرانية - كحزب «أودار»، الذي يقوده «فيتالي كليتشكو» - والتي شابهت في بنيتها الطبقية، المعارضة القائمة على الثورة البرتقالية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي 1991، حتى إن الحكومة منعت قائمة تضم 36 شخصية من «خبراء الثورات الملونة» دخول الأراضي الأوكرانية، من بينها الرئيس الجورجي السابق، «ميخائيل ساكشفيلي»، باعتبار هذه الشخصيات تهديداً للأمن القومي، حسب وصف أحد النواب الذين أعدوا القائمة السوداء آنفة الذكر.
بين الشراكة والاتحاد الجمركي
إن حل الأزمة في أوكرانيا ينتهي باجتياز منعطف تحديد الوجهة المستقبلية للسياسية الأوكرانية في تعاطيها مع التكتلات الاقتصادية العالمية المحيطة بها، ضمن خيارات محصورة بالشراكة الأوروبية أو الاتحاد الجمركي الروسي. فبعيداً عن نتائج الخيارات الأوكرانية على الخريطة الجيوسياسية في منطقة الأوراس، فإن القبول باتفاقية الشراكة الأوروبية، المشروطة برفع سعر الغاز40%، ستؤدي إلى موت العديد من السكان العاطلين عن العمل والمتقاعدين غير قادرين على دفع تكاليف التدفئة الباهظة الثمن. إضافة إلى أن شروط الشراكة المجحفة تتضمن تخصيص شركات الدولة، ورفع قيود سوق العمل، وتدفق البضائع الأوروبية، ما سيرتد سلباً على اقتصاد البلاد، نتيجةً للتبادل اللامتكافئ بين شركات الاتحاد والقطاعات الإنتاجية في أوكرانيا.
من جهة أخرى، فإن شراكة أوكرانيا مع الاتحاد الأوراسي، أو مع الاتحاد الجمركي الروسي، سيسمح لها بتكامل أفضل مع بلدان لها بنى اقتصادية مشتركة، تفتح الباب أمام استثمار الإمكانات الصناعية والزراعية الضخمة، وتطوريها بما ينعكس على النمو، وبالتالي على مستوى المعيشة للمواطنين، وبالتحديد الشرائح الاجتماعية المنهكة اقتصادياً، بفعل السياسات الليبرالية المطبَّقة في العقدين الأخيرين.