فرحٌ مُصادَر وغدٌ مُعلَّق... الشباب السوري بين سقوط السلطة وقيود الواقع الاقتصادي
لم يكن انفلاش الفرح في وجوه الشباب السوري- ذكوراً وإناثاً- بعد سقوط سلطة الأسد مجرّد انفعال عابر. كانت لحظة تنفّس مكبوت، اعترافاً صامتاً بأن زمناً ثقيلاً قد انتهى، ولو شكلياً، وأن الباب انفتح لعلّه يقود إلى مستقبل أكثر عدالة.
فرحٌ مؤقّت... وواقعٌ يبتلع الأمل
لكنّ هذا الفرح، بالكاد استقام حتى التهمته الحقائق القاسية... اقتصاد منهك، فرص نادرة، بطالة تخنق الطموحات، وغياب أي رؤية رسمية تتجاوز إدارة الأزمة إلى حلّها. وكأنّ الشباب قد خرجوا من جدارٍ مسدود ليجدوا أمامهم جداراً آخر أعلى وأقسى.
اقتصاد يُعمّق الألم... الأجور في الأسفل والأرباح في القمة
لا يزال النهج الاقتصادي السائد يسير بعكس اتجاه العدالة الاجتماعية. تمييزٌ فاضح لصالح أصحاب الأرباح، وتهشيمٌ مستمر لوزن أصحاب الأجور الذين يُدفعون أكثر فأكثر إلى هامش العيش.
تتباهى الحكومة بشعار «السوق الحرّ التنافسي»، لكنّ هذا الشعار لم يعنِ سوى تحرير الأسعار، وعدم تكافؤها مع الأجور، وتمكين استثمارات ريعية راحت تنمو فوق ركام القطاعات الحيوية المنتِجة. والنتيجة المختصرة:
الاستثمار الريعي يربح دائماً، بينما الصناعي والزراعي- القادران على خلق فرص عمل حقيقية- يُتركان بلا دعم وبلا تخطيط.
ثروة الأغنياء تتضخّم، فيما يتآكل ما تبقى من رمق لدى الغالبية المفقرة.
الشباب يهاجرون أو يختنقون، في سوق لا يعترف بحقهم في مشاركة عادلة بالثروة والفرص.
هذا النموذج الاقتصادي لم يكن صدفة، بل توجهاً ثابتاً، تُغيَّب فيه الدولة عن دورها الاجتماعي، وتُدفَع فيه الأغلبية المفقرة إلى تحمّل كلفة كل أزمة، فيما تُصان مصالح الأقليّة المتمكّنة.
سقوط السلطة... لا يعني سقوط النظام
يدرك الشباب تماماً هذه الحقيقة... سقوط رأس السلطة لا يعني سقوط البنية التي صنعت القهر والنهب والتمييز.
فالمنظومة السياسية– الاقتصادية التي حكمت، ما زالت تمتد بظلّها... بالعقليات ذاتها، وبالأدوات ذاتها، وبمصالح الشبكات التي لم تتفكّك بعد.
لذلك، لم يبتلعهم الوهم. يعرفون أن الانفراج الحقيقي لن يتحقق بنهاية شخص أو واجهة، بل بنهاية الأسلوب نفسه... أسلوب إدارة البلاد بمنطق الاحتكار، وباقتصاد يكرّس الفوارق، ويمنح الامتيازات على حساب الأكثرية.
المعيقات اليومية... حين يصبح العيش معركة شخصية
بحضور هذه المعادلة المختلّة، يواجه الشباب سلسلة معيقات تلتف حول حياتهم كالحبال:
بطالة تلامس اليأس... فرص قليلة، وشروط وظيفية مهينة، وأجور لا تعيش أسبوعاً.
تكلفة حياة خارجة عن المعقول... للسكن، النقل، الغذاء، التعليم... كلها تتحوّل إلى أحلام.
هجرة عقول متواصلة... كفاءات تتسرب، وشباب يحزمون مستقبلهم في حقيبة سفر.
غياب الدولة الراعية، لتتخلى عن واجبها في التخطيط والتشغيل والإنتاج، تاركة المجتمع يواجه مصيره منفرداً.
هكذا تسقط فرحة التغيير أمام واقع لا يتغيّر، أو يتغيّر للأسوأ.
المؤتمر الوطني العام... بداية الطريق لا نهايته
وسط كل هذا الانسداد، يرتفع رهان الشباب على المؤتمر الوطني العام كخطوة تأسيسية لا يمكن القفز فوقها.
ليس مؤتمراً للاحتفال أو الشعارات، بل لفتح الدفاتر السوداء... أزماتهم، مشكلاتهم، صعوباتهم، مع بقية القضايا التي تنوء بها البلاد منذ عقود.
مؤتمر يضع الناس- وخاصة الفئات المفقرة- في قلب النقاش، ويعيد فهم السياسة باعتبارها وسيلة لحماية المجتمع لا استنزافه.
فإذا لم يُناقش الاقتصاد من جذوره، ولم يُطرح بديل إنتاجي عادل، ستبقى البلاد تدور في الحلقة ذاتها مهما تغيّرت الوجوه.
غضب مشروع... وتفاؤل لا يموت
نعم، هناك غضب. غضب شديد، مبرّر، ومُتراكم.
غضب من واقع يخنق شباباً يستحقون مستقبلاً يشبه طاقاتهم.
غضب من دولة تخلّت عن دورها، ومن اقتصاد يُكافئ الثروة ويعاقب العمل.
لكن وسط هذا الظلام، هناك ما هو أقوى من الغضب... إرادة التغيير.
إرادة جيل لم يعد يقبل بالأمر الواقع، ويعرف أن معركته ليست إسقاط سلطة فقط، بل إعادة بناء وطن على أسس سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية جديدة وعميقة.
جيل لا يرى التغيير حلماً، بل ضرورةً، وواجباً، وحقّاً سيتحقق مهما طال الزمن.
جيل يعرف أن التغيير يُنتزع بالإصرار
الشباب السوري اليوم يقفون بين فرحين... فرح بسقوط سلطة كسرتهم سنوات طويلة، وفرح مؤجّل بانتصار لم يكتمل بعد.
وبينهما يقف واقع اقتصادي قاسٍ، وسياسات تحابي الأقوياء، وغياب دور الدولة، وبنية نظام لم تتغيّر إلا شكلاً.
ومع ذلك، يبقى الرهان الأكبر على جيل يعرف ماذا يريد، ويعرف أن التغيير الحقيقي لا يأتي صدفة، بل يُنتَزع بإصرار، ويتجسّد في دولة عادلة، واقتصاد منتج، ومجتمع يضع الإنسان في المركز لا في الهامش.
هذا الجيل، بكل غضبه ووعيه وإيمانه، هو القادر على دفع البلاد نحو تحوّل شامل وعميق... يستحق أن يولد أخيراً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1256