السياسات الأجرية التمييزية في القطاع الصحي... بين النفي والتأكيد... جوهر المشكلة واحد

السياسات الأجرية التمييزية في القطاع الصحي... بين النفي والتأكيد... جوهر المشكلة واحد

لم يعد الجدل حول الرواتب في القطاع الصحي مجرّد نقاشٍ تقني أو خلافٍ على أرقام هنا أو هناك. فبينما تنفي وزارة الصحة تصريحات منسوبة إلى وزيرها عن رفع الأجور، وتوضح أن الحديث يخصّ «مشفى القلب» المرتبط باتفاقية تعاون مع وزارة الصحة التركية، تتكشف صورة أعمق وأكثر خطورة... تكريس بنية أجرية غير عادلة، قائمة على الاستثناءات والتجزئة، بدل وضع سياسة شاملة تُنصف جميع العاملين في القطاع الصحي العام.

تمييزٌ في الأجور... لا في المهام


أسلوب إدارة ملف الرواتب عبر الاستثناءات- مشفى محدد، مشروع معيّن، اتفاقية تعاون خاصة- يُظهر أن تحسين الأجور ليس قائماً على رؤية وطنية واضحة، بل على منطق تعاقدي خارجي يُنتج طبقات داخل القطاع الصحي الواحد:
كادر راتبه محسّن لأن جهة أجنبية قد تدخلت.
وكادر آخر يعمل في ظروف أصعب وربما بخبرة أعلى، لكن يُترك تحت سقف أجور متآكلة لا تكفي لسد الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية.
أما المفارقة الأكبر فهي أن هذا التمييز لا يستند إلى حجم العبء أو درجة الخطورة أو ساعات العمل... بل إلى موقع العامل ضمن خارطة التمويل. فبدل عدالة الأجر مقابل المسؤولية، نعيش عدالة الأجر مقابل الحظّ.


بين النفي والتأكيد...تبقى الحقيقة الأساسية


سواء صحت الأرقام المتداولة عن مبالغ الأجور أم لم تصح، فإن مجرد طرحها ثم نفيها يكشف خللاً جوهرياً؛ لا توجد سياسة أجر وطنية واضحة للقطاع الصحي، ولا توجد آلية شفافة لتحديد رواتب الأطباء أو الممرضين أو الإداريين أو عمال الخدمات.
الوزارة تُسارع إلى نفي تعميم الأجر على كل القطاع وتحدده في مشفى وحيد، لكنها لا تسارع إلى طرح بديل، ولا إلى الاعتراف بأن الأجور الحالية في القطاع الصحي- في ظل تدهور المعيشة- أصبحت غير كافية، وغير عادلة، وغير منسجمة مع حجم المسؤوليات الحيوية التي يتحملها العاملون.


الأجور الصحية ليست منّة بل ضرورة لسلامة المجتمع


القطاع الصحي ليس قطاعاً عادياً، بل العمود الفقري لسلامة المجتمع واستقراره.
فكيف يمكن لطبيب مختص مسؤول عن حياة المرضى أن يعمل وهو لا يستطيع تأمين حاجاته الأساسية؟
كيف يُطلب من ممرض يعمل لساعات طويلة ومرهقة وفي قلق مستمر أن يؤدي مهامه بدقة بينما راتبه أقل من الحد الأدنى للمعيشة؟
كيف نتوقع من عامل خدمات في مشفى أن يحافظ على أعلى معايير النظافة والتعقيم بينما يعمل بأجر لا يغطي مواصلاته؟
إن العدالة الأجرية هنا ليست مطلباً فئوياً، بل هي شرطٌ لسلامة النظام الصحي نفسه.


التمييز الأجري يخلق نزيف كفاءات لا ينتهي


حين تُحسَّن أجور فئة محددة وتُترك بقية الفئات في ظروفها... تكون النتيجة واضحة:
هجرة داخلية نحو المؤسسات أو المشاريع ذات التمويل الأفضل.
وهجرة خارجية لمن يمتلك القدرة.
وانهيار في جودة الخدمات في المؤسسات الأضعف.
وبذلك يتحول النظام الصحي إلى نظام «جزر معزولة»؛ مؤسسات غنية وأخرى فقيرة، كفاءات تتكدس هنا وتغيب هناك، وتعميم حالة من الإحباط بين العاملين.


الحل...سياسة أجرية عادلة تشمل الجميع


القطاع الصحي يحتاج إلى إصلاح من نوع مختلف، يقوم على ثلاث قواعد أساسية:
أجر يكفي لتغطية الاحتياجات المعيشية الأساسية بما يضمن كرامة العامل وقدرته على الاستمرار.
أجر متناسب مع حجم المهام والخطورة والمسؤوليات، وسلم رواتب واضح وشفاف، بعيد عن الاستثناءات والاتفاقيات الجزئية.
عدالة تشمل كل العاملين من أعلى درجات الاختصاص إلى عمال النظافة والخدمات، لأن الجميع يشكلون سلسلة واحدة.
وأي ضعف في حلقة منها ينعكس على سلامة المرضى.


العدالة ليست ترفاً


إن أي نقاش حول الرواتب يجب ألا يبقى رد فعل على تسريب أو إشاعة أو نفي.
القضية أعمق... هل نريد قطاعاً صحياً قادراً على العمل، أم قطاعاً يبقى واقفاً «بالمساعدات» أو «بالمشاريع الخاصة» فقط؟
إن العدالة الأجرية ليست ترفاً ولا تفضّلاً من الدولة على موظفيها، بل حقاً وضرورة وضمانة لسلامة المجتمع كله.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1255