تصريح الذمة المالية... خطوة أولى تحتاج إلى التعميم والربط بعدالة الأجر
في خطوة لافتة على صعيد مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، أصدرت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش القرار رقم 871 بتاريخ 17 أيلول 2025، وقّعه رئيس الهيئة المهندس عامر العلي، وألزم جميع العاملين فيها بتقديم تصريح بالذمة المالية، سواء داخل أراضي الجمهورية العربية السورية أو خارجها.
وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه لا شفافية بلا عدالة اجتماعية، فمكافحة الفساد تبدأ من جذرين مترابطين:
الرقابة الصارمة على المال العام، والأجر العادل الذي يحفظ كرامة الموظف ويحد من إغراء الانزلاق نحو استغلال المنصب. وأي خطوة إصلاحية في الشفافية يجب أن تراعي هذين العنصرين معاً لتكون فعالة ومستدامة.
مضمون القرار
القرار يفرض على موظفي الهيئة تقديم تصريح مفصل وفق نموذج محدد، يتضمن ما يملكه الموظف وزوجه وأولاده القُصَّر من أموال منقولة وغير منقولة، بالإضافة إلى الحقوق والالتزامات المالية. وحدّد مهلة شهر واحد لتسليم التصريحات إلى مديرية التنمية الإدارية، على أن تحفظ في الملفات الشخصية للموظفين.
وقد استند القرار إلى القانون رقم 64 لعام 1958، الذي يشكّل الأساس التشريعي لمثل هذه الإجراءات.
الإيجابيات المفترضة
يمثل القرار خطوة عملية لتعزيز النزاهة داخل واحدة من أهم المؤسسات الرقابية في البلاد.
فشموله الزوجة والأبناء القُصَّر يُغلق باباً كان يُستغل لنقل الملكيات بعيداً عن أعين الرقابة.
وهو يبعث برسالة واضحة مفادها أن المساءلة تبدأ من داخل المؤسسات الرقابية نفسها.
بعض السلبيات والثغرات
رغم أهميته، لكن القرار لم يتضمن:
- عقوبات واضحة بحق من يتخلف عن التصريح أو يقدّم بيانات مضللة.
- آلية تحقق من صحة البيانات، ما قد يحوله إلى إجراء شكلي.
- تحديد دورية التصريح، وهل هو لمرة واحدة أم سيعاد كل فترة.
- نشر علني أو شفافية عامة، إذ اكتفى بحفظ التصريحات في الملفات دون اطلاع المجتمع عليها.
ما غاب عن المتن
الأهم أن القرار بقي محصوراً في نطاق موظفي الهيئة فقط، بينما تقتضي ضرورات مكافحة الفساد أن يشمل هذا الإجراء المسؤولين في المراكز الحساسة، مثل الوزراء ومعاونيهم، والمدراء العامين والفرعيين، وأعضاء مجلس الشعب، والسلطة القضائية، إضافة إلى كل من يتولى مسؤوليات مباشرة في الشأن العام.
الأجر العادل... أساس الوقاية
لا تكتمل أي سياسة لمكافحة الفساد إذا لم تُعالَج جذور المشكلة. فالرواتب المتدنية لموظفي القطاع العام تخلق فجوة خطرة بين تكاليف المعيشة وبين مستوى الدخل، ما يجعل بعض العاملين عرضة للإغراء أو الاستغلال أو البحث عن مصادر دخل غير مشروعة.
لذلك فإن تعزيز الشفافية عبر التصريح بالذمة المالية يجب أن يترافق مع ضمان أجر عادل وكافٍ يحفظ كرامة الموظف ويحدّ من احتمالية انزلاقه نحو الفساد. فالأجر العادل ليس مجرد حق اجتماعي، بل هو أداة وقائية ضد الفساد أيضاً.
المطلوب سياسة شاملة لا قرار جزئي
لا شك أن القرار رقم 871 يشكّل خطوة إصلاحية تستحق التقدير، لكنه لن يحقق الأثر المرجو ما لم يتحول إلى نهج عام وسياسة دولة. فالتجارب الدولية تؤكد أن التصريح بالذمة المالية يصبح فعالاً عندما يُعمم على كل من يشغل منصباً عاماً مؤثراً، ويرتبط بآليات تحقق مستقلة وشفافة، ويُقرن بإجراءات رادعة عند ثبوت الإثراء غير المشروع، مع سياسة عادلة للأجور تجعل النزاهة خياراً ممكناً لا عبئاً ثقيلاً.
الشفافية والمساءلة والأجر العادل... ثلاثية الأساس
القرار الجديد قد يفتح الباب أمام مسار إصلاحي واعد، لكنه بحاجة إلى التوسيع والتشديد والتعميم، وربطه بسياسات اقتصادية عادلة، كي لا يبقى مجرد خطوة معزولة.
فمكافحة الفساد لا تتحقق بالتصريحات الورقية وحدها، بل عبر رؤية متكاملة تُعيد الاعتبار لثلاثية أساسية، عناوينها: الشفافية، والمساءلة، والأجر العادل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1244