بين الخصخصة العمياء والدولة المنتجة

بين الخصخصة العمياء والدولة المنتجة

في الوقت الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة عن رفع جزئي للعقوبات المفروضة على سورية، مما يُتيح فرصة نادرة لالتقاط الأنفاس اقتصادياً، يخرج علينا بعض الأصوات بدعوات صادمة تطالب بتصفية القطاع العام بالكامل، وتسليم مفاصل الاقتصاد للقطاع الخاص «دون قيد أو شرط».

من هذه الأصوات تصريح مستشار اقتصادي في وزارة الاقتصاد، وصف فيه الدولة بأنها «حكم مباراة» يجب أن تخرج من «اللعبة الاقتصادية»، واعتبر أن على الحكومة بيع القطاع العام برمته، باعتباره عبئاً لا رجاء منه.
لكن هذه الدعوة، التي قد تبدو منطقية للبعض ممن أغرتهم التجارب النيوليبرالية، تخفي وراءها مخاطر اقتصادية وسيادية واجتماعية عميقة، لا يمكن لسورية تحملها، خاصة في هذه اللحظة التاريخية المفصلية.

القطاع العام ليس عبئاً... بل فرصة يجب إصلاحها

القول بأن القطاع العام «فاشل بالمبدأ» هو اختزال غير علمي للتجربة الاقتصادية السورية.
نعم، هناك مؤسسات عامة تعاني من الترهل، والفساد، وسوء الإدارة، لكن العلاج ليس في «النسف الكامل»، بل في إعادة الهيكلة والإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة.
فالقطاع العام في سورية، رغم ما مر به، لا يزال يشكل الآتي:
الضامن لاستمرار إنتاج السلع الاستراتيجية (كالخبز، والإسمنت، والأدوية، و...).
المشغل الأساسي لمئات آلاف العاملين.
الحامي للسوق من الاحتكار وارتفاع الأسعار.
والتفريط بهذه المنظومة دون بدائل آمنة هو لعب بالنار!

رفع العقوبات فرصة لإعادة تشغيل الدولة المنتجة

الإعلان الأمريكي الأخير بخصوص تخفيف بعض القيود الاقتصادية يجب ألا يُستغل كفرصة للخصخصة، بل كنافذة لإعادة تشغيل القطاع العام الإنتاجي، وضخ الاستثمارات في المؤسسات العامة القادرة على العودة إلى السوق.
إن عودة الصادرات الزراعية والصناعية السورية إلى الأسواق الخارجية لا يمكن أن تتحقق من خلال شركات صغيرة فقط، بل عبر مؤسسات عامة تملك البنية اللوجستية، وخبرات التصدير، والطاقة التشغيلية اللازمة.
فالدولة اليوم أمام خيارين:
إما أن تستغل هذه الفرصة التاريخية لإعادة بناء قاعدة إنتاجية وطنية متينة تقودها المؤسسات العامة بالشراكة مع القطاع الخاص.
أو أن تفرط بها عبر خصخصة متسرعة قد تُدخل الاقتصاد في فوضى جديدة، وتُنهي ما تبقى من الصناعة الوطنية.

الخصخصة الشاملة تعني الفوضى والاحتكار والبطالة

تاريخ الخصخصة في المنطقة حافل بالتجارب الفاشلة:
ففي مصر في التسعينيات تم بيع 118 شركة في أقل من 5 سنوات، فارتفعت البطالة، وانتشرت الاحتكارات، وخرجت الدولة من قطاعات أساسية.
وفي روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت طبقة أوليغارشية احتكرت الثروات، بينما سقط الملايين في براثن الفقر.
فهل هذا ما نريده لسورية؟
إن بيع قطاع الدولة لا يُنهي الفساد، بل ينقله من الإدارة العامة إلى القطاع الخاص الجشع وغير الخاضع للمساءلة، ويترك المواطن دون حماية.

الدولة ليست حكماً فقط… بل ضامناً للعدالة الاقتصادية

تشبيه الدولة بـ«الحكم» الذي لا يجب أن يشارك في الاقتصاد، هو مغالطة كبرى.
فالدولة في مرحلة الإعمار المقبلة تحتاج أن تكون اللاعب الأساسي والمنظم والمنقذ.
فالقطاع الخاص لا يستثمر في البنى التحتية الباهظة، ولا في المناطق الفقيرة، ولا في الصناعات الخاسرة استراتيجياً.
فمن سيبني محطات الكهرباء؟
ومن سيعيد تشغيل سكك الحديد؟
ومن سيعيد تأهيل معامل الدفاع والصناعات الدوائية الثقيلة؟
الجواب واضح... الدولة فقط.

اقتصاد سورية يحتاج التوازن لا الانسحاب

لا أحد يرفض دور القطاع الخاص، بل المطلوب اليوم هو شراكة متوازنة ترتكز على ما يلي:
القطاع العام يدير القطاعات الاستراتيجية ويعيد بناء المؤسسات الوطنية.
القطاع الخاص يساهم في الإنتاج والخدمات ويعمل في بيئة تنافسية عادلة.
الدولة تنظم وتحاسب وتراقب دون احتكار أو احتكار مضاد.
هذا هو النموذج الذي تبنته دول مثل الصين، سنغافورة، الهند، وتركيا، حيث تتشارك الدولة والقطاع الخاص في قيادة النمو، لا في إقصاء أحدهما للآخر.

لا تفرطوا بما تبقّى

إن التخلي عن مؤسسات الدولة تحت عنوان «الفشل المزمن» ليس إصلاحاً، بل انسحاباً غير مشروط من المسؤولية الوطنية.
فالمطلوب هو إصلاح القطاع العام، وليس تصفيته.
المطلوب هو الاستثمار فيه، وليس التبرؤ منه.
والمطلوب هو جعل الدولة «منتجة وعادلة» لا «مشاهداً صامتاً» في زمن التحولات الكبرى.
فسورية تستحق اقتصاداً سيادياً متوازناً يعيد البناء ويحقق العدالة وينهض بالوطن.
ولا يمكن أن يتحقق هذا الحلم دون دور جوهري وقوي وفاعل للدولة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1227